Translate

الأربعاء، 19 أبريل 2017

استقرار الاصطلاح

مفهومه ، وأهميته في جمع دلالات التعاريف على معان واضحة
( الحديث المنكر عند ابن حجر )

بقلم : عمرو محمد أشرف

الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على خاتم الأنبياء والمرسلين، والذي جاء بهذا الدين الحكيم، المحفوظ من كل تغيير وتبديل، بحفظ رب العالمين إلى يوم الدين، وعلى آله وصحبه، ومن سلك سبيلهم وتمسك بحبل السنة المتين.
أما بعد:
هذا العلم العظيم - أعني علم مصطلح الحديث؛ بمسائله يُعنى بمعالجة طريقة للتعلم؛ هي غاية في الأهمية، يأتي منشأ بنائها على الكيفية التي يحصل بها العلم للإنسان، التي إما أن تكون مباشرة أو بواسطة.
ولقد قال الله جل ذكره: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78]
فقد هيأ سبحانه وتعالى- في هذا البشر الذي خلقه سويا - أدوات التعلم ووسائل التلقي؛ لكي يعلم ويعقل ويتدبر المدركات، ويميز بين الأشياء.
ولئن كان الحصول على العلم بالأسماع والأبصار عن طريق إدراك الوقائع بالحواس؛ بإدراك مباشر لها في حين وقوعها، وهو أحد طريقي العلم بها، فإن الطريق الثاني هو إدراكها بطريق غير مباشر، وهو طريق الخبر، وهو أوسعُ دائرةً وأرحبُ مجالاً، وهو منفصل عن وقوعها بفاصل زمني أو فاصل مكاني، أو بالفاصلين كليهما.
ومن هنا وجدنا علماء الحديث -رحمهم الله - يُعْنَوْنَ في علم مصطلح الحديث بقضية (الخبر) عناية فائقة، كي يُحافظوا عن طريق ذلك على الميراث النبوي العظيم الذي تتناقله الأجيال المُتعاقبة، فتكون سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها حيّة ماثلة شاخصة، تهيئةً وَّتحقيقاً لِّلأمر الإلهي الكريم المُوجّه لهذه الأمة في جميع عصورها وأحوالها: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء 95] [نخبة الفكر (دراسة عنها وعن منهجها) ص ( 123)]
ـــــــ  تسلسل علوم الحديث :
يعد كتاب الرسالة لناصر الحديث الامام الشافعي (ت 204) المنطلق التأصيلي المحرر لكثير من أنوع المصطلح الحديثي ، يقول العلامة أحمد شاكر ـــ رحمه الله ـــ (الرسالة للشافعي ص 369) :
" ومن فِقْهِ كلام الشافعي فـي هـذا الباب وُجِدَ أنه جمع كل القواعد الصحيحة لعلوم الحديث "المصطلح"، وأنه أول من أبـــــان عنه إبانة واضحة، وأقوى من نصر الحديث، واحتج لوجوب العمل به، وتصدى للرد على مخالفيه، وقد صدق أهل مكة وبروا إذ سموه: (ناصر الحديث)، ـ رضي الله عنه "
وكما هو حال البدايات ، فاستيعاب الأنواع مما يعسر ، وحسبه أنه أبان
وجمع وميز. ونشير أننا لسنا بصدد التحديد الدقيق الزمني أو الشخصي لأول من صنف في علوم المصطلح ، وإن كنا نشير أن في متفرقات أهل العلم بالحديث معالم المصطلح في خضم النقد والتعليل مما يصح أن يقال فيه أنه الزرع الذي أنتج قواعد المصطلح .
وبعد الرسالة ، نقف مع تحريرات بديعات للإمام عبد الله بن الزبير الحميدي (ت219) منثورة في كتاب الخطيب البغدادي ( الكفاية 1/122) مثلا: وهو يتحدث عن الشروط التي يبنى عليها الخبر المقبول يقول :
"  فإنْ قال قائلٌ: فما الحديث الذي يَثبت عن رسول الله  وتَلزمنا الحُجَّةُ به؟ قلتُ: هو أن يكون الحديثُ ثابتاً عن رسول الله  متصلاً غيرَ مقطوعٍ، معروفَ الرجال. أو يكون حديثاً متصلاً قال: حدثنيه ثقةٌ معروفٌ، عن رجلٍ جَهِلْتُه وعَرَفَه الذي قال: حدثني عنه. فيكون ثابتاً بمعرفة مَن قال: حدثنيه عنه، حتى يصل إلى النبي  ، وإنْ لَمْ يَقُلْ كُلُّ واحدٍ مِمَّن حَدَّثه: سمعتُ أو حدثنا حتى ينتهي ذلك إلى النبي  ، وإنْ أَمْكَنَ أن يكون بين المُحَدِّث والمُحَدَّث عنه واحدٌ أو أكثر. لأنَّ ذلك عندي على السماع، لإدراك المُحَدِّث مَن حَدَّث عنه، حتى ينتهي ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ".
ومن بين ما تعرض له ـــ أيضا ـــ ( الرواية عمن كان يختار السماع من لفظ المحدث على القراءة عليه ، رد حديث أهل الغفلة ، من رجع عن حديث غلط فيه..).
ـــ  ولحق بهم مسلم بن الحجاج النيسابوري ( ت 261) فكتب مقدمة لصحيحه أبرز فيها عينة وافرة من عناصر المصطلح ، التي أصبحت أساسات ، بنى عليها من جاء بعده ومما جاء فيها ( وجوب الرواية عن الثقات ، التحذير من الكذب على رسول الله ﷺ ، معايب الرواة ..) .
ـــ  وتبعهم أبو داود السجستاني ( ت 275) فقيد في رسالته إلى أهل مكة عناصر أخرى من المصطلحات ( الاحتجاج بالمرسل ، الحديث المنكر ..) .
ثم تتابع بعدهم محمد بن عيسى الترمذي ( 290) " العلل الصغير" ، الطحاوي (321) "الفرق بين الحديث والخبر .."  محمد بن حبان ( 354) " الصحيح على التقاسيم .." ، الرامهرمزي (360) " المحدث الفاصل .." ، محمد بن عبد الله الحاكم ( 405) " معرفة علوم الحديث " ، أحمد بن علي الأصفهاني (430) " المستخرج على معرفة علوم الحديث " ، أحمد بن علي أبوبكر الخطيب (463) " الكفاية " " الجامع " .. ، ( محمد بن طاهر ، القاضي عياض ، الميانجي ابن الصلاح ، النووي ، مغلطاي ، ابن كثير، الزركشي ، عمر بن رسلان البلقيني ، عبد الرحيم بن الحسين العراقي ) في سلسلة متراصة ، متناسقة كابرا عن كابر ، جيلا عن جيل .. وصولا لمحور بحثنا ، أحمد بن حجر العسقلاني ( 852) الذي تعرض لنقد لاذع ، من بعض المعاصرين ، وصل بهم إلى رميه بتغيير علوم المصطلح!! ومنازعة!! أهل الاصطلاح اصطلاحهم .
وتنوعت مواضيع ــ  وأحوال ـــ  نقدهم ، وفيما يتعلق ببحثي فقد ركزت على أهم محور نقدي، وهو: ( الحديث المنكر ) ، محاولا الإجابة على التساؤل الحيوي الذي طرحه من أشرت إليهم:
هل غير الحافظ ابن حجر ــ رحمه الله  ــ  دلالة النكارة عما أطلقه من تقدمه ؟
وما مقدار الاصابة أو الخطأ في تعريف الحديث المنكر عنده ؟.
ويتلخص الجواب في النقاط التالية ـــ بإيجاز ــــ :
1)       مفهوم الاصطلاح واستقرار الاصطلاح .
2)       أقسام التعريف الاصطلاحي .
3)       مفهوم الحديث المنكر بين أبي حاتم الرازي وابن حجر العسقلاني .
4)       الموازنة بين التعاريف والنتيجة .


1/ مفهوم الاصطلاح واستقرار الاصطلاح :
" العلم  الذي نشأته مستقلة تكون مسميات أجزائه متأخرة جدا في توحدها واستقرار حدودها العلمية ، خلافا للعلم الذي يكون فرعا أو نتيجة بعلم آخر فإنه يستمد مسميات أجزائه من المؤثر فيه أو المتبوع منه ، وهذه المسميات أطلق عليها العلماء بعد استقرار حدودها العلمية بالمصطلحات .
ــــ  فالاصطلاح هو: تواطؤ جماعة من العلماء على تسمية جزئيات علمهم بأسماء يضعون لها حدودا تساعدهم في البحث وتوضح نتائجهم فيه وقد عرفه بعض العلماء :
( اتفاق طائفة على وضع اللفظ بإزاء المعنى ) [التعريفات للجرجاني ص 22]
فهو لفظ جديد لمعنى من المعاني يضعه العلماء له ".
[استقرار الاصطلاح في علوم الحديث مساعد ال جعفر ص 1]
" ونستطيع إذا أن نكيف حقيقة الاصطلاح في ضوء ما ذكر أنه:
( اللفظ المختار للدلالة على شيء معلوم ليتميز به عما سواه ) ثم ليعلم أن من هذه الألفاظ الاصطلاحية ما لا يثبت دلالته على وتيرة واحدة بل يعتريها الاستبدال والسعة والضيق ، بحيث تتسع مدلولاتها أو تضيق أو تختص بمعنى ــ  ما ـــ "  [المواضعة في الاصطلاح ضمن فقه النوازل، بكر أبو زيد (1/123) ]
" ولما كان نشوء الاصطلاح متأخرا عن تدوين الحديث فان علماء المصطلح أخذوا اصطلاحهم من الأوصاف التي وصف بها رواة الحديث أحاديثهم بعد استقراء هذه الأحاديث والأوصاف التي وصفت بها وضبطها بضابط واحد اعتبر فيما بعد اصطلاحا كما وضع له الحد من استقراء مقاصد العلماء في الوصف الذي يطلقونه على الحديث " [استقرار الاصطلاح صفحة (6) ]
لذا من سنن الارتقاء العلمي استقلال كل علم بمصطلحات تعارف عليها أصحابها ، فهي ضرورة وسبيل نقل المعلومة من جيل إلى جيل .. واتفاق طائفة مخصوصة على اصطلاح معين جامع لدلالات معينة توحدت أجزاءها ، بحيث امتد به الاصطلاح وتعورف عليه هو ما يسمى استقرار الاصطلاح . وهو مشترك بين بقية العلوم النحوية والأصولية ..
" علم الأصول وعلم النحو أخوان فكلاهما كان يجري في ألسنة العرب وضمائرهم على السليقة والطبيعة فلم يكن العرب العرباء يعرفون اصطلاحات النحويين المتأخرة ولو سمعوها لفهموها على غير ما يقصده أهل النحو ، لأن هذه الاصطلاحات طارئة حادثة وكذلك الاصطلاحات الأصولية ، لم يكن أكثرها معروفا ..
وما قيل في العربية يقال أكثره في علم الأصول فقد تكلم السلف بمسائل أصولية وخرجوا عليها أحكاما شرعية ولم يكونوا يعرفون الاصطلاحات إذ لم تكن ظهرت بعد، فكانت القواعد الأصولية تنطلق على ألسنتهم بطبيعتهم فمن كلامهم استنبطت تلك القواعد "
[أصول الفقه قبل عصر التدوين/ صفوان الداودي/ ص (27) فما بعد ]
2ــ  أقسام التعريف الاصطلاحي :
       للتعاريف سمات حسب الضيق والسعة ومقدار الفروع المنضوية تحت التعريف وهي على ثلاثة أقسام : الأول :
1-          التعريف الكلي الذي يحوي جميع الفروع .
2-          التعريف الأغلبي الذي يحوي أغلب الفروع .
3-          التعريف البعضي الذي يحوي بعض الفروع .  
         فالأصل في الألفاظ أن تكون مختلفة بحسب اختلاف المعاني ، إلا أن هذا لا يمكن لعسر ضبط المعنى المراد لكل إمام ، ولاختلاف دلالة المعنى بينهم ، والألفاظ تحصر المعنى وتضيقه لتيسير الفهم والاستيعاب فيصير الى نهاية . ودخول الخلل عند بعض المعاصرين ، فيما ــــ أزعم ــــ دخل عليهم من خلو استحضار هذه الأقسام عند تعاملهم مع التعريفات التي رسمها ابن حجر ـــ مثلا ـــ في النخبة وغيرها .. ومرجعها، أساسا ، أغلبيا ليس كليا .
وأشير هنا إلى فكرة : ( تطوير المصطلحات)
وهي تقرير معانٍ لمصطلحات الحديث غيرِ معانيها عند أهل الاصطلاح، مع العلم بهذا التغاير، ثم التعامل مع كلام أهل الاصطلاح وفق هذا المعنى الجديد ومحاكمتهم إليه .
لقد أباح بعضُ أهل العلم لنفسه أن يقع في هذا الخطأ الكبير، الذي هو في واضحِ حقيقته مشاحّةٌ في الاصطلاح، لا وَجْه لها.
وهو في خافي حقيقته منازعةٌ لأهل الاصطلاح ممن ليس من أهله فيما ينازعهم فيه.
ذلك أن الذي يأتي إلى علم مكتملِ القواعد والأصول، مُقرَّرٍ بألفاظٍ وتعابير اصطلاحيّةٍ سابقةٍ له، كان ينبغي عليه أن يأخذ هذا العلمَ كما هو عن أهله، ولا داعي إلى تغيير مصطلحاته لأن ذلك لا فائدة فيه، ما دامت مصطلحاته القديمة قد قامت بخدمة ذلك العلم، وقد دُوّنت أصول العلم وأمهات كتبه عليها.
بل ذلك التغيير سيؤدّي إلى تعسُّرِ ذلك العلم بتعدُّد معاني ألفاظه.
وربّما أدّى إلى فَهْمِ كلام السابقين وَفْق اصطلاح اللاحقين (كما وقع بالفعل)
بل ربما أدّى ذلك إلى محاكمة السابقين وتخطيئهم وفق ذلك الاصطلاح الحادث (وهذا قد وقع أيضاً)
ثم يؤدّي ذلك إلى تقرير قواعد العلم بناءً على ذلك الفهم الخاطئ لكلام الأئمة النقاد.
وإذا افترضنا أن شيئاً من هذه المحاذير لم يقع، سوى أنّ أحدهم اقترح معاني جديدةً لمصطلحات قديمة، مبيّناً صراحةً أنّها اصطلاحاتٌ خاصّةٌ به، لا علاقةَ لها بغيره؛ فإنني أعود لأسأل: إذا أبحنا لأحدٍ فِعْلَ ذلك، فبأي حق أمنع غيره منه؟! وإذا لم أمنع غيره، فتعدّدت معاني المصطلحات الخاصّة في ذلك العلم بتعدُّد الكاتبين فيه، فلك أن تتصوّر التعسُّر بل التعذُّرَ في تعلُّم ذلك العلم الذي سيحدث جرّاءَ تلك المعاني المختلفةِ المتباينةِ في علمٍ واحد.
أعود لأقول: إن العلم المكتمل القواعد والأصول، المقرَّرَ بألفاظٍ وتعابير اصطلاحيّة: لا يحق لأحدٍ أن يحاول تأصيلَ غير ما اكتمل من قواعده، ولا أن يُقَرِّرَهُ بغير اصطلاحاته التي تقرَّرَ عليها من قَبْل؛ لأنّ في فعل شيءٍ من هاذين الأمرين إضاعةً لذلك العلم وتدميراً له!!!
إذن فالعلم الذي اكتملت قواعده وأصوله من قبل، ينبغي أن يكون سبيل تعلُّمِه بالرجوع إلى ما سُبقنا إليه من تقرير تلك القواعد والأصول؛ لأن في الخروج عنها خروجاً عن الكمال، والخروج عن الكمال نقص))
[ حاتم العوني  بَيَانُ الحَدّ الذي يَنْتهِي عِنْدَهُ أَهْلُ الاصطلاحِ والنَّقْد في علوم الحديث (330فما فوق) ضمن كتاب إضاءات بحثية ]
أقول في كلام  الشيخ ـــ وفقه الله ــــ  مبالغة كبيرة . من حق الباحث المتجرد أن يسأل التالي :
ما هي العوامل التي دفعت إلى الكتابة في الاصطلاح ؟
" وتقييده وتخليصه من السعة التي كان عليها في العصور المتقدمة ، فأخذ منه المصنفون في المصطلح أهم معانيها وأكثرها تأثيرا تمييزا للمصطلح وقيدوه بها ، وأشاروا إلى ما خرج عن هذا ، والأئمة المتقدمون لم يتكلموا على عباراتهم على الاصطلاح فتسميته اصطلاحا فيه تجوز ، وإنما عبروا بعبارات عن أنواع معينة ، وأحوال معينة للحديث أو للرواة ، فاذا استقرت الظروف كان من المناسب الاجتهاد في وضع الاصطلاح ، وهذا ما دأب عليه الأئمة منذ زمن ونجحوا في هذا نجاحا كبيرا ساعد على تسهيل علوم السنة ووفروا على من أتى بعدهم كثيرا من الجهد والوقت بتقريب علوم المتقدمين عبر الاستقراء والتتبع والشرح ، وما فعلوه من محاولات التوفيق والجمع فإنه كان بمقتضى الصناعة العربية ليس فقط الحدود المنطقية ، نعم كان يحصل من ذلك شيء ، لكنه لم يؤثر في الحقيقة إلا في تطويل  بعض البحوث فيما لا فائدة فيه عمليا ولهذا تجد بعض المصنفات تتجاوزه وبعضها تخوض فيه بحسب خلفية المصنف الثقافية واجتهاده فيما يظنه فائدة للمتعلم والدارس "  [حبذا كيس الحافظ : 111 للدكتور أحمد الزهراني]
فالجواب على كل ما سبق يتلخص في :
1- " فقرنا العلمي ".
2- " بعدنا عن علمهم "
3-  " تعاور المؤثرات على أساليب تفكيرنا "
4- " المعوقات دون فهم كلامهم " [ المنهج المقترح : 259ــ 260 ]
إلا أن الشيخ حاتما ـــ وفقه الله ــ ذهب إلى ما هو أبعد مما افترضه حول فكرة " تطوير المصطلحات " فهو يقرر أن المتقدمين هم  أصحاب الحق الكلي في تقرير المصطلح ، خصوصا علماء القرن الثالث ـــ هكذا ـــ ضربة لازب . [ندوة علوم الحديث واقع وافاق :55 ــ 57]
" والدكتور حين يتعب نفسه في هذا التقرير والعرض التاريخي يريد أن يصل إلى نتيجة أن علماء القرن الثالث هم المرجع في مصطلح الحديث، وأن أي تطور أو تحديث يأتي به من بعدهم يكون بدعا!! من القول لأن الشيء إذا اكتمل لا يحتمل الزيادة.
وتاالله إنه أقام عمل البشر مقام الدين المنزل من عند الله ..
وعموما فنحن نقول: إن واقع علم الحديث أو مصطلح الحديث قابل للتطوير بحسب مستجدات كل عصر .. لكن نقول إن مرجعيتنا إلى علماء القرون الثلاثة في منهج النقد ليس مرده ارتباط ذلك بحركة التدوين ، وإنما مرده إلى صواب قواعد النقد التي توصلوا إليها والتي فتح الله بها عليهم تحقيقا لوعد الله بحفظ الدين ، وقد أدى ذلك المنهج دوره باقتدار ، لأنه نتيجة جهود مجتمعة ومتكاملة من الأئمة منذ بدء حركة التلقي والأداء للسنن النبوية وغيرها ، والأئمة اللاحقون ليس هدفهم الابتكار والتجديد في القواعد والأصول ، وإنما كان مجالهم التهذيب والاصطلاح والجمع والتقسيم وتمييز الأنواع وغير ذلك من مجالات خدمة علوم السنة..
ولكن لا يغيب عنا أيضا التأكيد أن التطوير لا يعني التغيير والتحريف والتحويل، ومنهج النقد هو في الحقيقة جهد تراكمي لا تبادلي أي أن اللاحق يأخذ ما عند السابق ويضيف عليه لأن المسألة أصلا مرتبطة بالدين، وأي تغيير في منهج النقد يؤدي إلى تغيير شيء من الدين، هو مرفوض قطعا . لكن هل حصل هذا على يد أحد من أئمة الحديث الثقات ؟ بالتأكيد: لا .
فالأئمة المحدثون حتى من بعد القرن الثالث حافظوا على الإرث الذي تركه لهم من قبلهم وزادوا عليه ما فرضته عليهم ظروف المرحلة التي يعيشونها..
ولكن هذا الكلام للأسف يلقيه الدكتور ردا على أعمال الأئمة المتأخرين وهذا ما شرحه في المنهج المقترح وسببه أنه اعتبر التطوير في الشكل والتنظيم والتقسيم والاصطلاح اللفظي تطويرا وتغييرا في المنهج وهو مكمن الخطأ، لأن هذا التطوير والتنويع والتصنيف في مصطلح الحديث لم يفتئت على أئمة الحديث المتقدمين الذين هم المرجع في منهج النقد ، إنما جمع أقوالهم وصنفها ووجهها وفسرها ونظمها وشرحها واستنبط منهجهم من أفعالهم وأقوالهم وكل ما هنالك أن المنهج العلمي التعليمي اضطر لضبط المصطلحات، أن يتبع الأغلب في الاستعمال، وأن يتفق على مصطلحات على أنواع خاصة قد تخالف غير المشهور من استعمال بعض المتقدمين، وقد تقيدها في غالب الاستعمال ونحو هذا لا يضر المنهج النقدي ولا يغير فيه ، إنما يخدمه وييسره ويزيد من الاقبال عليه..
ومن هنا نقول أن الأئمة المتقدمين وخصوصا من اكتمل المنهج النقدي بعصرهم عند الدكتور وبلغ قمته ، وإن كانوا فعلا المرجعية وهم أهل المنهج النقدي إلا أن ذلك لا يعني عصمتهم في مجال التطبيق ، كما أن هذا لا يعني حرمة الاجتهاد على من بعدهم فضلا عن مخالفتهم من، طالما امتلك المخالف لهم الدليل الحسي الذي تقوم به الحجة على الجميع ". [حبذا كيس الحافظ :179ــ 180]
ــ  ومناط الأمر  في جميع العلوم بما فيها علوم الحديث ما قاله الشاطبي ( ت790) رحمه الله عن عوامل ظهور علم المقاصد والدلالات:  « بَلْ حَصَلَ لَهُمْ ذَلِكَ مِنَ الظَّوَاهِرِ وَالْعُمُومَاتِ، وَالْمُطْلَقَاتِ وَالْمُقَيَّدَاتِ، وَالْجُزْئِيَّاتِ الْخَاصَّةِ، فِي أَعْيَانٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَوَقَائِعَ مُخْتَلِفَةٍ، فِي كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ، وَكُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِهِ، حَتَّى أَلْفَوْا أَدِلَّةَ الشَّرِيعَةِ كُلَّهَا دَائِرَةً عَلَى الْحِفْظِ عَلَى تِلْكَ الْقَوَاعِدِ، هَذَا مَعَ مَا يَنْضَافُ إِلَى ذَلِكَ مِنْ قَرَائِنِ أَحْوَالٍ مَنْقُولَةٍ وَغَيْرِ مَنْقُولَةٍ». الموافقات [ ط : مشهور 2/82]
ــــ وقضية تطوير المصطلحات المقصود والمرمي بها ــــ رأسا ـــ الحافظ أمير المؤمنين في الحديث ابن حجر العسقلاني كما نسبها إليه الدكتور حاتم العوني وفقه الله في أكتوبته « المنهج المقترح» .
« والحقيقة إن هذه القضية فيها نظر كبير، وهي قضية غير واضحة عند من يثيرها، إذا لوحظت الأمور التالية:
أولاً : أن الاصطلاحات التي يذكرها ابن حجر(ت ٨٥٢ هـ) إنما هي لمعانٍ معروفة، دون أدنى تغيير منه لمعنى مصطلح الأئمة أو إحداث معنى يحمله عليه!
ثانياً : أن ابن حجر رحمه الله  حسب ما يظهر إنما اصطلح في قضايا تتداخل بعضها في بعض وتتشابك فيها عبارات الأئمة، أو فيها أكثر من قول، فاختار رحمه الله أحد هذه الأقوال وجعله المراد بالمصطلح، ليحصل التمايز والتباين بين الأنواع، دون مساس لمعنى المصطلح عند الأئمة بل بمراعاته ذلك لإعطاء الهيئة الكلية للعلم، من نخبة فكره ونظره، ولم يزعم أن المصطلح استقر على ما ذكره، و لا حصر معاني المصطلحات فيما أورد" . [ مصطلح المتقدمين والمتأخرين : محمد بازمول 125ــ 126]
»   ولو كان الأمر بهذا الحد الذي يضعه المعترض على ابن حجر رحمه الله؛ للزم منه أن يعد جماعة من الأئمة الكبار ممن وقع في تطوير المصطلحات، فهذا ابن أبي حاتم يضع مراتب الجرح والتعديل، ولم يسبقه أحد إلى ذلك، على الوضع الذي ذكره! بل تجد في بعض كلامه ما لا ينطبق على كلام جميع الأئمة المتكلمين في الرجال إنما على كلام بعضهم فقط، فقد ذكر من الألفاظ في كل مرتبة ما لا يتفق مع عباراتهم وألفاظهم جميعاً! فهل يصح أن يقال: أن ابن أبي حاتم بصنيعه هذا قد دخل في تطوير المصطلحات؟». [ مصطلح المتقدمين والمتأخرين 127]
والغريب أن الدكتور أسس هذه الفكرة على معطيات ضعيفة الدلالة والتصور، لا تساعد لا من قريب ولا من بعيد ــ على الأقل ـــ  لاستيعاب موضوع الطرح فضلا عن هضمه، فكيف يستسيغ الباحث أن يتصور أن الاصطلاح اكتمل نضوجه بتسلسل تاريخي انتهى في القرن الرابع، وأشد غرابة أنه مثل لهذا الكمال بالعامل النقدي في الصحيحين والسنن والكامل لابن عدي  ..
والحقيقة لو تأمل ما سطره ــ وفقه الله ـــ  لوجده دليلا عليه . فمن المتأهل لاستخراج الكنوز الحديثية في الصحيحين كمثال ؟
وأنت تعلم ـــ ونحن معك ـــ أن صنعة الحديث في الصحيحين كرأس الهرم، لا يرتقيه إلا أفراد قلائل ، بل حتى وقت كتابة هذه الأسطر ما زال الباحثون في الدراسات العليا وغيرهم يتهيبون خوض غمار صحيح مسلم – كمثال- للأن كنوفه النقدية تحتاج لغواص ليستخرجها على وجهها الصحيح المتسق مع ركائز صحيح مسلم ، بدل هذا التوارد على هذه الفهوم العكسية ( التقديم والتأخير ، الإشارة للإعلال ) بدعوى السبر ، نسأل الله الصبر .
3ــــــ  مفهوم الحديث المنكر بين أبي حاتم الرازي و ابن حجر العسقلاني:
قبل الدخول إلى هذا المحور ــ أجدني ــ ملزما بالتذكير أنه علينا استحضار المعطيات السالفة ( استقرار الاصطلاح ، وأقسام التعاريف ) لأنها أساس هذا المقال.
وعليه : فـ « كل العلوم في بدايتها لم يستقر لها اصطلاح عام يشمل كل من تكلم فيها؛ ومن هذه العلوم علم الحديث؛ حيث يجد الناظر فيه أن أئمة الحديث كانوا يتكلمون على الرواة والأحاديث دون اصطلاح دقيق محدد يسيرون عليه، بل كان لكل واحد منهم ألفاظه وعباراته الخاصة  يعبر بها عما يريد بيانه من أوصاف الرواة والأحاديث، فتجد المعنى الحديثي الواحد يعبر عنه كل إمام بعبارته، وقد تتشابه الألفاظ والعبارات وقد تختلف!
هذا الواقع أوجد صعوبة وغموضاً في هذا العلم، سواء في جانب عبارات الجرح والتعديل، أم في أوصاف الحديث؛ إذ تنوع الألفاظ على وصف الحديث يضفي غموضاً يصعب معه فهم العلم ».
 [مصطلح المتقدمين والمتأخرين صفحة 6 ]
فاذا عقدنا مقارنة بين الناقدين أبي حاتم وابن حجر، بصفة التقدم والتأخر والاكثار من تعليل الأحاديث بالنكارة وجدنا التالي :
«استعمل الإمام أبو حاتم المنكر استعمالاً واسعاً، فقد أطلقه على معانٍ عدة :
1ــ  فقد أطلقه على الحديث الذي انفرد بروايته راو ضعيف أو مجهول أو شديد الضـعف وهذا أكثر استعمالاته للحديث المنكر.
2ــ  وأطلقه على الحديث الموضوع.
3ـــ وأطلقه على حديث الضعيف الذي خالف الثقة
4ــــ وأطلقه على الحديث الذي في إسناده انقطاع
5ــــ وأطلقه على الحديث الذي في إسناده تدليس
6ــــ وأطلقه على الحديث الذي خالف فيه الثقة من هو أوثق منه «أي الشـاذ فـي عـرف المتأخرين »
7ـــ  وأطلقه على الحديث الذي أخطأ فيه الثقة
8- وأطلقه على الحديث الذي انفرد بروايته راوٍ ممن لا يحتمل تفردهم
9- وأطلقه على نكارة المتن.
[الحديث المنكر عند الإمام أبي حاتم الرازي- قاسم غنام وأحمد عبد الله أحمد ص 28]
« وهذا يؤكد على أن الوصف بالنكارة يشمل أغلب مظاهر الضعف في الحديث »
[ الحديث المنكر دراسة نظرية تطبيقية في كتاب علل ابن أبي حاتم صفحة 421]
 « وإذا كان هذا المصطلح قد كثر استعماله بين أئمة الحديث ونقاده المتقدمين ، مع عدم تصريحهم بالمراد منه على وجهٍ محددٍ ودقيق » .
[ مفهوم الحديث المنكر في سنن أبي داود عبد العزيز الهليل ص 3 ]
 فكان لزاما ــ ولا بد ــ من تقريب هذا المصطلح بتعريف أغلبي يجمع المعنى المشترك بين دلالات هذا اللفظ، مع ملاحظة مواقع استعمال النقاد له .
وقد نجح في هذا المطلب، عند الحافظ ابن حجر  إلى حد كبير . فبالنظر إلى كتبه نستنتج التالي : (( بين التعريف والتطبيق ))
أولا: من حيث التعريف اختار لمصطلح « منكر » تعريفان  .
 الأول : إطلاق النكارة على ما تفرّد به راويه المستور، أو الموصوف بسوء الحفظ، أو المضعّف في بعض شيوخه دون بعض، أو نحو ذلك ممن لا يحكم لحديثهم بالقبول بغير عاضد يعضده، حيث لا متابع له ولا شاهد.
قال ابن حجر : « وأما إذا انفرد المستور أو الموصوف بسوء الحفظ أو المضعّف في بعض مشايخه دون بعض بشيء لا متابع له ولا شاهد فهذا أحد قسمي المنكر الذي يوجد في إطلاق كثير من أهل الحديث وإن خولف في ذلك، فهو القسم الثاني وهو المعتمد على رأي الأكثرين.
فبان بهذا فصل المنكر من الشاذ وأن كلا منهما قسمان يجمهما مطلق التفرد أو مع قيد المخالفة - والله أعلم -.
وقد ذكر مسلم في مقدمة صحيحه ما نصه: "وعلامة المنكر في حديث المحدث إذا ما عرضت روايته للحديث على رواية غيره من أهل الحفظ والرضى خالفت روايته روايتهم، أو لم تكد توافقها، فإذا كان الأغلب من حديثه كذلك كان مهجور الحديث غير مقبوله ولا مستعمله".
قلت: فالرواة الموصوفون بهذا هم المتروكون.
فعلى هذا رواية المتروك عند مسلم تسمى منكرة. وهذا هو المختار ».
[ النكت على ابن الصلاح 2/275]
الثاني : « وزيادة راويهما- أي الصحيح والحسن - مقبولة ما لم تقع منافية لمن هو أوثق، فإن خولف بأرجح فالراجح المحفوظ، ومقابله الشاذ، ومع الضعف فالراجح المعروف ومقابله المنكر »
[نزهة النظر شرح نخبة الفكر  46 ـ 52]
أو هو بعبارة أخرى :" ما رواه الضعيف مخالفاً لما رواه الثقة  "والله أعلم»
مع ملحظ مهم ـــ غاية ـــ  وهو اقتصار الحافظ ابن حجر في النخبة  على القسم الثاني ـــ كما سيأتي ــ  في الشاذ والمنكر ، وهو قسم المخالفة فقط . وهذا لا يعني أبدا حصر التعريف في هذا القسم كما فهمه بعض المعاصرين ، بل لابد من النظر في مجموع كلامه قبل الحكم عليه بما هو براء منه . وهذا ما نبه عليه الحافظ السخاوي  قائلا :« وَكَذَا فَرَّقَ فِي شَرْحِ النُّخْبَةِ بَيْنَهُمَا، لَكِنْ مُقْتَصِرًا فِي كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى قِسْمِ الْمُخَالَفَةِ، فَقَالَ فِي الشَّاذِّ: إِنَّهُ مَا رَوَاهُ الْمَقْبُولُ مُخَالِفًا لِمَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ، وَفِي الْمُنْكَرِ: إِنَّهُ مَا رَوَاهُ الضَّعِيفُ مُخَالِفًا، وَالْمُقَابِلُ لِلْمُنْكَرِ هُوَ الْمَعْرُوفُ، وَلِلشَّاذِّ كَمَا تَقَدَّمَ، هُوَ الْمَحْفُوظُ » [فتح المغيث 2/13 ط: الخضير ]
* فالمعتمد بعد النظر في كلام الحافظين ابن حجر والسخاوي رحمهما الله تعالى نستنتج التالي :
- كل من الشاذ والمنكر قسمان ووقع التمييز بينهما من جهة مراتب الرواة .
- القسم الأول للشاذ : ما تفرد به الصدوق بما لا متابع له ولا شاهد ، ولم يكن عنده من الضبط ما يشترط في المقبول .
- القسم الثاني للشاذ : من بلغ رتبة المقبول في الضبط لكنه خالف من هو أرجح منه في الثقة والضبط .
- القسم الأول للمنكر : انفراد المستور أو الموصوف بسوء الحفظ أو المضعف في بعض مشايخه خاصة ـــــ أو نحوهم ــــــ  ممن لا يحكم لحديثهم بالقبول بغير عاضد يعضده بما لا متابع له ولا شاهد .
- القسم الثاني للمنكر : الانفراد مع المخالفة ممن سبق وصفهم في القسم الأول .
بعد هذا العرض الوجيز يظهر لنا ألمعية هذا الجهبذ المحقق ، ومدى قدرته على جمع الأقوال المتباعدة مقربا صورها في الاجتماع والافتراق . فغاية صنيع ابن حجر  أنه راعى المعنى المشترك ( التفرد والمخالفة)  لإطلاقات النقاد لهذه الكلمة، فصاغه  على شكل  تعريف أغلبي ، وقد غفل من فهم أن ابن حجر حصر المنكر في ما رواه الضعيف مخالفا فيه الثقة . وتطبيق الحافظ يرده .
من تطبيقات الحافظ :
1-             عند شرحه حديث: " كُنْتُ أَسْقِي أَبَا عُبَيْدَةَ وَأَبَا طَلْحَةَ وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ، مِنْ فَضِيخِ زَهْوٍ وَتَمْرٍ، فَجَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ: إِنَّ الخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: قُمْ يَا أَنَسُ فَأَهْرِقْهَا، فَأَهْرَقْتُهَا " [صحيح البخاري حديث رقم .5582]
قال رحمه الله تعالى: " وَمِنَ الْمُسْتَغْرَبَاتِ مَا أَوْرَدَهُ ابن مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ طَرِيقِ عِيسَى بْنِ طَهْمَانَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ كَانَا فِيهِمْ وَهُوَ مُنْكَرٌ مَعَ نَظَافَةِ سَنَدِهِ وَمَا أَظُنُّهُ إِلَّا غَلَطًا وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ فِي تَرْجَمَةِ شُعْبَةَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ حَرَّمَ أَبُو بَكْرٍ الْخَمْرَ عَلَى نَفْسِهِ فَلَمْ يَشْرَبْهَا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ" [فتح الباري : 10- 38]
فحكم على متنه بالنكارة مع نظافة اسناده فهل يعقل أن يقال أن الحافظ حصر مصطلح " منكر " في " ما رواه الضعيف مخالفا الثقة  أو من هو أولى منه ؟ .
ونكتة المسألة أن إفادة المعنى الأغلبي في التعريف  صَحِيحَةٌ، وَإِنْ تَخَلَّفَ عَنْ مُقْتَضَاهَا بَعْضُ الدلالات وإلا للزم المعارض أن يطلق مصطلح منكر على أغلب أنواع مباحث الضعيف فلا تتميز الأنواع . لأن إخراج بعض دلالات المصطلح من التعريف لا يقتضي  إخراج الدلالة الغالبة وفي مثله يقول الشاطبي رحمه الله تعالى «لِأَنَّ الْأَمْرَ الْكُلِّيَّ إِذَا ثَبَتَ كُلِّيًّا، فَتَخَلُّفُ بَعْضِ الْجُزْئِيَّاتِ عَنْ مُقْتَضَى الْكُلِّيِّ لَا يخرجه عن كونه كليا» .
2-             « وساق الثعلبي قصة سرية الرجيع فقال وقال ابن عباس ومقاتل نزلت في سرية الرجيع وذلك أن كفار قريش بعثوا إلى رسول الله إنا أسلمنا فابعث إلينا نفرا من علماء أصحابك يعلموننا وكان ذلك مكرا منهم فبعث إليهم خبيب بن عدي ومرثد بن أبي مرثد وغيرهما فذكر القصة مطولة وقوله فيها "إن قريشا هم الذين بعثوا في ذلك" منكر مردود والقصة في الصحيح والمغازي لموسى بن عقبة وابن إسحاق لغير قريش وذلك أشهر من أن يستدل عليه » [العجاب في بيان الأسباب : 1ـ 523]
وهنا أيضا حكم بالنكارة على المتن على غير اصطلاحه في النزهة .
3-             في قوله تعالى (وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم) قال: وقال الثعلبي في سياقه قصة الرجيع جاء رجل من المشركين يقال له سلامان أبو ميسرة ومعه رمح فوضعه بين ثديي خبيب بن عدي فقال له خبيب اتق الله فما زاده ذلك إلا عتوا فأنفذه فنزلت. قلت: وهذا أيضا منكر فإن الذي في الصحيح ان الذي قتل خبيبا هو أبو سروعة بن الحارث النوفلي» [العجاب في بيان الأسباب 1/524]
4 ـــ  قال: «  وأخرج ابن المنذر من طريق محمد بن ثور عن ابن جريج قال قال عكرمة فذكره إلا أنه قال مات الأسلت فجنح عليها ابنه أبو قيس وهذا منكر والمحفوظ أنه أبو قيس بن الأسلت فألقى عليها ابنه ثوبا » [العجاب 2/848]
ففي هذا المثال  أطلق المحفوظ بمقابل المنكر وهذا دليل بارز أن ابن حجر لا يحصر مصطلح المعروف مقابل المنكر وإن ميزه للتفريق والتسهيل .
فمن خلال هذه الأمثلة يستشف جليا أن ابن حجر رحمه الله تعالى جار في حلبة من سبقه من المتقدمين من إطلاق النكارة على معناها الواسع في أحكامه الحديثية .
5 ـــ  ومن ذلك قوله في حديث يحي بن عمرو الهمداني  «  عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَى قَيْسِ بْنِ مَالِكٍ الْأَرْحَبِيِّ: " بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ، مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى قَيْسِ بْنِ مَالِكٍ، سَلَامٌ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ وَمَغْفِرَتُهُ، أَمَّا بَعْدُ، فَذَاكُمْ أَنِّي اسِتَعْمَلْتُكَ عَلَى قَوْمِكَ: عُرْبِهِمْ وَخُمُورِهِمْ وَمَوَالِيهِمْ وَحَاشِيَتِهِمْ، وَأَقْطَعْتُكَ مِنْ ذُرَةِ يَسَارٍ مِئَتَيْ صَاعٍ، وَمِنْ زَبِيبِ خَيْوَانَ مِئَتَيْ صَاعٍ، جَارٍ ذَلِكَ لَكَ وَلِعَقِبِكَ مِنْ بَعْدِكَ أَبَدًا أَبَدًا » .
قال الحافظ : « هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ وَأَنْكَرُ مَا فِيهِ قَوْلُهُ كَتَبَ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ » المطالب العالية 9/492]
فعلل لفظة باسمك اللهم بالنكارة المتنية .
6 ـــ  في حديث  «  رَزِينَةَ مَوْلَاةِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَضِيَ الله عَنْها قَالَتْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سبى صفية رَضِيَ الله عَنْها يَوْمَ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، يَوْمَ فتح الله عز وجل عَلَيْهِ، فَجَاءَ يَقُودُهَا مَسْبِيَّةً، فَلَمَّا رَأَتِ النِّسَاءَ قَالَتْ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، فَأَرْسَلَهَا فكان ذراعها رَضِيَ الله عَنْها فِي يَدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَعْتَقَهَا، ثُمَّ خَطَبَهَا وَتَزَوَّجَهَا وَأَمْهَرَهَا رَزِينَةَ .
قال الحافظ ابن حجر : «حَدِيثٌ مُنْكَرٌ عَنْ نِسْوَةٍ مَجْهُولَاتٍ، وَالَّذِي فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ الله عَنْه أَنَّهُ جَعَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا، وَكَذَا تَقَدَّمَ عنها نفسها رَضِيَ الله عَنْها فِي كِتَابِ النِّكَاحِ » [المطالب العالية 16 / 610]
فعلل الحديث بالنكارة لجهالة النسوة ولمخالفة متنه ما هو معروف في الصحيح من أن مهر صفية رضي الله عنها عتاقها .( وليس مهرها رزينة).
- وفي رسالة الباحث صبحي طه ياسين محمد « الحديث المنكر عند الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتابه التلخيص الحبير ، دراسة نظرية تطبيقية » مزيد توسع.
خاتمة
* الاصطلاح هو تواطؤ جماعة من العلماء على تسمية جزئيات علمهم بأسماء يضعون لها حدودا ، تساعدهم في البحث وتوضح نتائجهم - أو هو اللفظ المختار للدلالة على شيء معلوم ليتميز به عما سواه .
* الاصطلاحات يعتريها الاستبدال والسعة والضيق بحيث تتسع مدلولاتها أو تضيق أو تختص بمعنى هو جزء من الدلالة الكلية .
* علماء المصطلح بنوا تعاريفهم على الأوصاف التي وصف بها النقاد الروايات على أساس استقراء هذه الأوصاف ، وجعلوا لها ضوابط حتى تتسق في نمط متكامل .
* استقرار الاصطلاح معناه : اتفاق طائفة مخصوصة على اصطلاح أو أكثر جامع لدلالات معينة توحدت أجزاءها بحيث امتد بها الاصطلاح ( الشيوع ) وتعورف عليه .
وهو ضرورة علمية ومعرفية في اطار تكامل العلوم واتساقها كأصول الفقه والدلالات والمقاصد والبيان والتفسير ..
من هذا المنطلق ، خط الحافظ ابن حجر لنفسه خطا ضمن عظماء المصطلح ، فوضع تعاريف منضبطة لمصطلح ( المنكر) جمع فيه بين جزئيات الاطلاقات التي اتسمت بالسعة ، فراعى معنى هذا المصطلح عند الأئمة ، ونص على تعريفات أغلبية ليحصل التمايز بين الأنواع دون حصر هذه التعاريف في معنى دون آخر .
وغياب هذا المعطى أدى لحصول التباس عند جملة من المعاصرين ، فرموا ابن حجر بتبديل الاصطلاح والتغيير فيه ومعاكسة أصحاب الشأن .. فيما سميناه قضية تطوير المصطلحات ، وقد أسلفنا أنها قضية غير متزنة لا واقعا ولا تصورا .
كما صورناها بأمثلة تطبيقية علمية من تحريرات أمير المؤمنين في الحديث .
"فيا أَيها القارئ له والناظر فيه، هذه بضاعة صاحبها المزجاة مسوقة إليك، وهذا فهمه وعقله معروض عليك، لك غنمه وعلى مؤلفه غرمه. ولك ثمرته، وعليه عائدته. فإن عدم منك حمداً وشكراً، فلا يعدم منك مغفرة وعذراً " [ من مقدمة طريق الهجرتين لابن قيم الجوزية]
أسأل الله أن يتولانا بفضله وأن يكون عملنا أرجى من قولنا

أخوكم :  أبو مالك عمرو محمد أشرف العمراني 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق