Translate

الاثنين، 13 مارس 2017

تحليل قضية التفريق المنهجي في النقد الحديثي

بقلم / أبو عمر، عادل سليمان القطاوي


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فالراصد الموضوعي لأي منهجية - في علم قائم بذاته له تاريخه وحدوده - مفتشاً هل تغيرت منهجية هذا العلم عن ذي قبل أم لا؟
عليه أن ينظر أولاً –إجمالا- في النتيجة، قبل الخوض في دراسة التفاصيل:
هل النتيجة في جملتها سلبية أم إيجابية ؟
ولكي يحصد النتيجة الصحيحة، عليه أن يحصي  عداً كم هي مسائل الاختلاف التي خالف فيها الحفاظ المتأخرين أئمة النقد المتقدمين، في علم مستمرٍ متسلسلٍ عبر القرون ..
فإن وجد أن المسائل التي أحصاها في نتائج هذا الاختلاف تعدت القدر المشترك من الموافقة..
فلا تثريب عليه حينئذٍ أن يسميه خلافاً منهجياً من أجل هذا القدر الذي طغى كثرة على القدر المشترك.
 
إذ إن هذه النتيجة خرجت بهذا العلم أو هذا الفن عن موضوعه من جهة، ونأى به عن المنهج الأصلي لواضعيه من جهة أخرى..
 
هذا هو البحث الموضوعي والمنطقي المعقول، لإنجاح أي نتيجة من هذا النوع.
وبما أننا نتحدث عن مسائل الاصطلاح والنقد في علوم الحديث:
 
فقد وصلت أنواعه المسطورة في كتب واضعيها إلى أكثر من ثمانين نوعاً، وهذا حسب التوسع الظاهر، والتكلف في إفراد كثير منها بالنوع، كما هو معلوم للدارسين..
 لكننا لو فرضنا أن هذه الأنواع في حقيقتها لا تصل لنصف هذا العدد أو ربعه، فليس من الجيد أن يعد وجود الخلاف - في مسألتين أو ثلاثة أو خمسة - خلافاً منهجياً، يخرج أهله من هذا العلم، فضلاً عن وجود جمهرة من المشتغلين بهذا العلم، يخالفونكم في عد هذه المسائل من الخلاف المعتبر من جهة، وما بنيتموه عليه من الخلاف المنهجي كما تذهبون إليه من جهة أخرى..
وبعيدا عن النتيجة التي يستخلصها أحدنا في الوقت الراهن، فلننظر إلى المسألة نظرة تأريخ فنقول:
(1)  إذا كانت نتائج الاختلاف هي التي تحدد أسباب الاختلاف..
(2) 
 وهذه النتائج ظهر فيها الاختلاف منذ القرن الرابع كما تحددونها..
 فمن الضروري جداً – والحاجة إليه ملحة - أن يظهر عبر تلك القرون من يصف أو يسمي هذا الاختلاف بأنه اختلافاً منهجياً، يخرج به المحدث كونه محدثاً ويصُفُّهُ في صَفِّ الفقيه الأصولي .. وهذا ما لم يوجد ..
بل الموجود على أرض الواقع، أن أكثر أهل كل زمان، يستروحون طريقة الفقهاء في النقد الحديثي، وأن العالمين بالعلل يقلون بين المشتغلين بالحديث، وهذا حقٌ لا ينكر ..
لكن لا يلزم منه أن امتداد مدرسة الحديث والعلل انقطع بالكلية في كل قرن..
يقول الحافظ العلائي في جامع التحصيل (ص: 21):

" أما بعد، فإن الله سبحانه فضل هذه الأمة بشرف الإسناد، وخصها باتصاله دون من سلف من العباد، وأقام لذلك في كل عصر من الأئمة الأفراد، والجهابذة النقاد، من بذل جهده في ضبطه، وأحسن الاجتهاد وطلب الوصول إلى غوامض علله، فظفر بنيل المراد، وذلك من معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم التي أخبر بوقوعها ودعا لمن قام بهذه الخصيصة، وكرع في ينبوعها، فقال صلى الله عليه وسلم : " تسمعون ويسمع منكم، ويسمع ممن يسمع منكم ". اهـ
بل لازم هذا القول: انقطاع سلسلة هذا العلم الذي سمى النبي صلى الله عليه وسلم أهله بالطائفة المنصورة ..
وقال: " لا تزال طائفة من أمتي ...." وفسرها الأئمة النقاد بأنهم أهل الحديث ..
فنقل الخطيب في شرف أصحاب الحديث (ص: 26) قول يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ:
إِنْ لَمْ يَكُونُوا أَصْحَابَ الْحَدِيثِ، فَلَا أَدْرِي مَنْ هُمْ ؟".
وقالها كذلك أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ: " إِنْ لَمْ يَكُونُوا أَصْحَابَ الْحَدِيثِ فَلَا أَدْرِي مَنْ هُمْ؟"
وقول ابْنُ الْمُبَارَكِ: " هُمْ عِنْدِي أَصْحَابُ الْحَدِيثِ ".
 
وقَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حَاتِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ سِنَانٍ، وَذَكَرَ، الحَدِيثَ، فَقَالَ: هُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ وَأَصْحَابُ الْآثَارِ.
 
وقد بوب عليه البخاري [ بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الحَقِّ يُقَاتِلُونَ" ] وقال: وَهُمْ أَهْلُ العِلْمِ .
ورواه الترمذي وقال: " قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ المَدِينِيِّ: هُمْ أَصْحَابُ الحَدِيثِ ".
وبوب ابن حبان في كِتَابُ الْعِلْمِ قائلاً: [ ذِكْرُ إِثْبَاتِ النُّصْرَةِ لِأَصْحَابِ الْحَدِيثِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ ]
 
وروى في صحيحه حديث ابن عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " تَسْمَعُونَ وَيُسْمَعُ مِنْكُمْ وَيُسْمَعُ مِمَّنْ يَسْمَعُ مِنْكُمْ ".
 
وجاء عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " يَرِثُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ ". الحديث.
فالسؤال المنطقي هنا:
هل انقطع هذا التواصل وعاش في برزخ مفقود الحلقات، وفجأة يقفز قفزة واحدة من الدارقطني [في القرن الرابع] إلى ابن عبد الهادي وابن رجب [في القرن الثامن] ؟
وهل استراح سبعة قرون أخرى بعد ذلك ولما استفاق من سباته، قفز قفزة أخرى من عندهما [في القرن الثامن] إلى المعلمي اليماني [في القرن الربع عشر]؟
لم يقل ذلك أحد من العلماء قاطبة طيلة عشرة قرون مضت..
 
بل هذا العلم في حقيقته متسلسل عبر تلك القرون مُحَدِّث عن مُحَدِّث، ولا يخلوا كل قرن من عالم بالعلل ناقل لها.
 
والتتلمذ الحديثي المتوارث من جيل الحفاظ المحدثين من المتقدمين إلى جيل هؤلاء العلماء المتأخرين، يثبت بما لا يدع مجالاً للشك، أن مدرسة الحديث واحدة في الأصل، وإنما يقع الخلاف في الاجتهاد التطبيقي، كلٌ حسبما وصل إليه من علم، تماما كما وقع بين المتقدمين من اختلاف، وتلك هبات ربانية، والمعصوم من عصمه الله.
 
وما من فترة إلا وتجد فيها الاتصال متوارث، فانظر إلى التسلسل في مدرسة الأندلس، ومدرسة الري وسجستان ونيسابور والحجاز ومصر الخ ؟.
فلم ينخرم قرن من القرون وهو يخلو من محدث يرفع راية الحديث وأهله حتى زماننا هذا ..
 
وفيه تتفاوت القدرات والهبات الربانية، مع التسليم بقلة من يعرف العلل ويعمل بها، لا أنه معدوم بالكلية ..
 
وما يُستَدَلَّ به من عبارات الثناء والتعظيم على المتقدم وعلو كعبه والإياس من لحاقه، مسلم لا نشك فيه..
 
لكن أن يعد خلافاً منهجياً، وبه يخرج الحفاظ المتأخرين من زمرة هذا العلم ويحشرون مع أهل المنطق ومتعصبة المذاهب، ومن ثم ترد كل اجتهاداتهم النقدية، ويشكك في اصطلاحات المحدثين، ويتهمون بأنهم عبثوا وأضروا بالسنة وعلم الحديث!! فهذا أمر لا يستسيغه من يقدر العلم وأهله..
 
فإن دفع المخالف: بأنه لا يرد اجتهاداتهم، ولا يشكك في اصطلاحاتهم، ولا يزدريهم أو يغمطهم حقهم..
فجوابه: أن هذا لازم قولكم الظاهر.. وليس عما في الضمائر والنوايا ..
إذ لا معنى لتصريحكم أن منهجهم يخالف منهج المحدثين النقاد إلا ذلك.
فقد جعلتموهم مع المناطقة في الاصطلاح .. ومع الفقهاء في الحكم النقدي على الروايات ..
وكلانا يعلم أن كلام الفقهاء في الصنعة النقدية الحديثية لا يعبأُ به ..
كما أن كلام المناطقة في الحدود والاصطلاحات الحديثية مردود..
 
ولذلك قلت أن هذا لازم قولكم سواء قلتم أن المتأخرين معهم بالجملة، أو أنهم تأثروا بهم في الاصطلاح، ومن ثم تأثروا بهم في العمل النقدي وظهر أثر ذلك في التصحيح والتضعيف..
ومن ينكر ذلك .. فهو مطالب أن يبين لنا: ماذا يريد بالمنهج ؟
ولماذا وصفتم هذا الخلاف بأنه خلافاً منهجياً ؟
وعموماً: فلا مندوحة من وجود الخلاف والاختلاف، لكن نرفض الغلو فيه لهذه الدرجة ..
كما نرفض الكيل بمكيالين والنظر بإحدى العينين، كما قال بعض الأفاضل:
أن الخلاف بين المتقدمين والمتقدمين خلاف في التطبيق، والخلاف بين المتقدمين والمتأخرين، خلاف في المنهج!!
وبغض النظر عن الرؤية الشخصية، أو هذه النظرة المخترعة والحادثة زمناً وعلماً..
فإن التفرقة بين خلاف وخلاف، في موضوع واحدٍ تحكم ظاهر ..
لأن نتيجة الاختلاف بين [المتقدمين والمتقدمين] يظهر أثرها في التصحيح والتضعيف قل أم كثر، وإن كان الكثير من هذا الاختلاف ظاهر جداً في الجرح والتعديل.
 
وكذلك نجد نتيجة الاختلاف بين [المتقدمين والمتأخرين] هي كذلك في التصحيح والتضعيف والقليل منه في الجرح والتعديل..
 فإذا توحد العلم .. [ تاريخ وامتداد تسلسل الرواية والنقد ]
 وتوحدت أدوات الموضوع .. [ من منظور الإسناد والمتن  ]
 وتوحدت النتيجة .. [ الحكم على الأحاديث والعمل بها ]  
 
فاختلاف حيثيات النتيجة، وتباينها، لا تعدوا أن تكون وجهة نظر مبناها على الاجتهاد من المحدث، متقدماً كان أو متأخراً  .. 
فعدها منهجية! بُعدٌ ظاهر عن الصواب،  إذ إننا لو أرجعنا الاختلاف إلى الاصطلاح فقط، فسنجده غير ذي تأثير عملياً بالقدر الذي يعد خلافاً منهجياً كما يزعمون..
وإذا أرجعنا الخلاف إلى التباين في الحكم على الأحاديث، بين المتقدم والمتأخر، فيتوجب النظر برؤية واقعية..
فسنجد أن التشدد والتساهل نسبي بين المتقدمين والمتأخرين ..
وسنجد أن المعول عليه في الأصل هو ثقة الرجال واتصال الاسناد .. وهذا مجمع عليه.
 
وسنجد أن الإعلال ذو فروع شتى لا تتفق له معايير عامة يصح نسبتها للنقاد بقدر ما هي رؤية اجتهادية في كل رواية.
ولذلك نجد النقاد المتقدمين يختلفون في أوجه العلة، كما يختلفون في قوتها وتأثيرها ..
 
وتختلف صورة العلة من ناقد لآخر ..
فهناك من يصرح وهناك من يشير فقط، وهناك من يسوق الإسناد ليدلل على العلة ..
والصور متفاوتة .. وقد يفعلها الناقد الواحد حسب النشاط ..
فغالب كتب العلل كتبت على طريقة تشبه طريقة المناظرة، وهي السؤالات ..
ولذلك صح أن يقال : لكل حديث دولته ورجاله ..
لكن في الجملة نقول:
ارتباط الرواية بالحكم على الرجال رابط قوي لا ينفصم أبداً ما وجد رواة ووجدت روايات .
وهذا المحك الكبير الذي يميز متقدم عن متقدم فضلا عن متقدم ومتأخر ..
ولبيان ذلك:
نجد أن الحكم على الرواية من جهة النقد والإعلال قد يكون:
 ** فرع من الحكم على الراوي ..   
**  وقد يكون أصل في الحكم عليه  ..
(1) 
 أما الفرع: فعندما يكون الكلام عن عدالة الراوي، يصبح الحكم فرعياً، من جهة قبول روايته أو ردها جملة، وبالتالي فلا يدخل في دائرة النقد التفصيلي، بل في دائرة الاحتجاج من عدمه أصالة.
 
وهذا يقل فيه الاختلاف نسبيا بين المتقدمين أنفسهم، لأن من جرح الراوي في عدالته مبيناً سببه فلا خلاف في تقديم قوله، ولذلك يكثر في كتب الجرح والتعديل الاتفاق على جرح العدالة والتسليم له في الجملة..
(2)  وأما الأصل: فهو عندما يكون الكلام عن ثقة الراوي وحفظه وضبطه واتقانه، فيصبح الحكم عليه أصلٌ في تصحيح ما يرويه أو إعلاله، وهذا هو الكثير الوارد في كتب التراجم حول الثقة والصدوق، والمجهول حالاً أحياناً، وهو الذي يكثر في كتب العلل شرحه وبيانه، وبجمع الطرق يظهر الاختلاف والاتفاق، ويظهر عندئذٍ من أخطأ ومن أصاب.
وهذا هو المؤثر الحقيقي في اختلاف المتقدمين على الرواة، وليس الحكم على العدالة..
وبالتالي: فالاختلاف في الحكم على ضبط الراوي يعكس بالتطابق الاختلاف في الحكم على الرواية، لأنها الأصل في الحكم عليه، لسبرهم رواياته، ومعرفة الخطأ من الصواب، والحفظ من الوهم، والتدليس من عدمه .. الخ. وهذا من جهة.
ومن جهة أخرى قياسها على أحاديث الباب وروايات الثقات، فالباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه.
وجميع ما وصلنا من أحكامهم على الروايات قليل بالنسبة لما وصلنا من أحكامهم على الرواة..
وهذا يعطي التأكيد على أن ظاهر الإسناد أصل لا يهمل، سواء اختلفوا أم اتفقوا ..
 
فما وصلنا منهم إلا هذا العدد المحدود في الحكم على الروايات وما جرى فيها من اختلاف بينهم، وهذا لا يعني الحصر.
كما أن الضرورة في تعدد الرواة وكثرتهم على الروايات كواقع حديثي في الإخبار، يجعل التوجه للحكم على الرواة يكثر ويقل في الحكم على الروايات ..
وهذا وحده كفيل ببيان أن الأصل  هو الحكم على الرواة لكثرة ما يروونه ..
وبالتالي فالمنقول من اختلافهم في الرواة - كما فصلنا وجهه - يترتب عليه الاختلاف في التصحيح والإعلال، وهو كثير لا يحصر ..
وأذكر هنا ما قاله الدارمي في سؤالاته لابن معين ( رقم 368 ص 1233) وهو كثيراً ما يخالفه.
قال لابن معين:
فسليمان بن داود الذي يروي حديث الزهري في الصدقات من هو؟ قال ابن معين: ليس بشيء.
 
قال الدارمي: أرجوا أنه ليس كما قال يحيى، وقد روى عنه يحيى بن حمزة أحاديث حساناً كلها مستقيمة، وهو دمشقي خولاني ".
 وهذا مثال من أمثلة كثيرة، وفيه هنا: المخالفة من الدارمي ويحيى بن حمزة لابن معين في الحكم على الراوي من جهة، وتبع ذلك الحكم على مروياته كلها من جهة أخرى.
 
فقد قبل حديثه قوم ورده أخرون كما هو معروف في حديث الصدقات المشهور، وكم من مصحح له ومضعف من أجل ذلك.
 
وهنا مثال آخر – من أمثلة كثيرة أيضاً- تخص الحكم على العدالة ومنها المذهب الرديء الذي قد تترك روايات الراوي لأجله.
وذلك فيما جرى بين أحمد وابن معين بخصوص عبيد الله بن موسى العبسي..
فأحمد يترك الحديث عنه لتناوله معاوية رضي الله عنه، ويعيب على ابن معين الرواية عنه ..
فيرد عليه ابن معين بمثال عبد الرزاق الذي يتناول عثمان رضي الله عنه وقد حدث عنه أحمد معه..
قال أبو زكريا غلام أحمد بن أبي خيثمة:
كنت جالساً في مسجد الجامع بالرصافة، مما يلي سويقة نصر، عند بيت الزيت، وكان أبو خيثمة يصلي صلواته هناك، وكان يركع بين الظهر والعصر، وأبو زكريا يحيى بن معين قد صلى الظهر، وطرح نفسه بإزائه، فجاءه رسول أحمد بن حنبل، فأوجز في صلاته وجلس. فقال له:
 
أخوك أبو عبد الله أحمد بن حنبل يقرأ عليك السلام ويقول لك: هو ذا تكثر الحديث عن عبيد الله بن موسى العبسي وأنا وأنت سمعناه يتناول معاوية بن أبي سفيان، وقد تركت الحديث عنه.
قال: فرفع يحيى بن معين رأسه، وقال للرسول: اقرأ على أبي عبد الله السلام، وقل له:
 
يحيى بن معين يقرأ عليك السلام. ويقول لك: أنا وأنت سمعنا عبد الرزاق يتناول عثمان بن عفان، فاترك الحديث عنه، فإن عثمان أفضل من معاوية. اهـ
[تاريخ بغداد 14/427، أقوال الإمام أحمد بن حنبل في رجال الحديث وعلله 2/4111]
فبينما يحتج أحمد على ترك حديث عبيد الله لتناوله معاوية، يحتج عليه ابن معين بترك حديث عبد الرزاق لتناوله عثمان، وهو أفضل من معاوية باتفاق.
وهذا المثال ليس من الإعلال في شيء كما هو ظاهر، لكن ينبني عليه الحكم - من وجهة نظر الإمام أحمد – على روايات عبيد الله بن موسى، فقد حكم عليها بالنكارة والتخليط لأنه عنده لا يصح التحديث عنه.
وبهذا وغيره يتبين شدة التعلق بين الحكم على الراوي والحكم على رواياته وأن الاختلاف فيهما متعلق بالآخر لا ينفك عنه.
وكذلك الاختلاف في الإعلال مبني في أكثره على الاختلاف في الرواة، وتقديم الحافظ على الواهم، والمتقن على غيره ..وهو اجتهاد يوفق الله فيه من يشاء من عباده.
وهنا يأتي دور المتأخرين، فيوجهون كلام الأئمة في الرواة، فيقدمون الجرح المفسر على غيره، ويقدمون التوثيق على الجرح المبهم، وبالتالي فيحق لهم - إذ حق لهم الفصل في تراجم الرواة بما نقل عن المتقدمين – مخالفة إعلال المتقدم إذا ظهرت الحجة التي تثبت خلاف ما أعل به الناقد، وحجة المتأخر ولابد مأخوذة من عمل المتقدم ..
فإذا كانت للناقد خصوصية بخبر يخص حديث راوٍ ما، لا يهمل حذاق المتأخرين ومحققيهم مثل هذا النقل.
وهذا في مجمله ليس من كيس المتأخر بل مما نقله عن المتقدم ولكنه أعمل الترجيح والموازنة بين هذا المنقول.
فمن صحح حديثاً أعله أحد النقاد، هو بالضرورة يتبع غيره من النقاد، الذين لم يعلوه بشيء مع معرفتهم له وروايتهم إياه في مصنفاتهم، أو سكوتهم عليه، وهذه تحتاج إلى تفصيل ليس هاهنا محله ..
لكن قد يوجد فيمن يحكم على الأحاديث من المتأخرين من يقدم ظاهر الإسناد على رأي الناقد، وفيهم من لا يقدمه، ومن هنا تنشأ التباينات بين الجيل الواحد من الحفاظ .. فليس كل المتأخرين سواء في التحقيق والتتبع والتدقيق ..
وإذا كنا نتفق سوياً على وجود الخلاف التطبيقي بين المتقدمين والمتقدمين، وكذلك بين المتقدمين والمتأخرين، وأن هذا محل إجماع..
فادعائكم أن الأخير قد تحول إلى خلاف منهجي، وإصراركم عليه، ودعوتكم له على الملأ - متخصصين وغير متخصصين - أَثَّرَ في انفصام لحمة علماء الحديث وطلبته، وتشتيت جهودهم، والعبث بالأصول الحديثية التي استمرت عشرة قرون متضافرة على العمل الحديثي، فضلاً عن غمط جهود جمهرة من المتأخرين والمعاصرين، والاستهانة بجهودهم، كما صرح به البعض ممن انتهج فكرة التفريق ودافع عنها بحده وحديده، وللأمانة نقول: ليس الكل في ذلك سواء.
هذا فضلاً عن أثر الاختلاف في العمل بالسنة، فمن صحح مسألة قد يبدعه فيها المخالف لأنه يرى إعلال الحديث ويرد تصحيح المتأخر، وفي هذا من التفرق والتشرذم ما فيه.
ولا يزال أثر هذه الدعوى يتوسع يوماً بعد يوم، حتى رأينا من يتجرأ على الصحيحين بما لم يسبق إليه من عالمٍ عاملٍ مشهود له بالعلم والتحقيق.
كما تعرض نظريات -ليست حقائق في نفسها بقدر ما هي رؤى لأصحابها من طلاب العلم- على أنها قواعد محققة على منهج أئمة العلل المتقدمين!!
وأمثال ذلك كثير، أذكر منه قولهم بأن حقيقة التحسين عند الترمذي إعلال وتضعيف، وأنه وصفي لا اصطلاحي، وأن تحسين البخاري كذلك لم يفهمه العلماء وما هو إلا مجرد إعلال، ومثله تحسين ابن المديني ويعقوب بن شيبة، وغيرهما.
وإذا سألنا: من أين لكم هذا التعريف وهذا الحكم؟ قالوا: كما حكم المتأخرين على كذا وكذا!!
ونظريات كثيرة مشابهة لتلك، لعلنا نتفرغ لمناقشتها فيما يأتي بإذن الله تعالى في إطار الأخوة والمحبة.
والقصد: أن هذه الدعوى بدأت –على يد أصحابها- مجرد فكرة لها حيثياتها ووجهتها، وما إن لبثت حتى تحولت بعدُ إلى منهج، من وافقه فسليم العقل، ومن خالفه فجاهل أحمق!!
ولو وَسِعَ كل منا الآخر لاجتمعنا إلى خط اقتراب لا شطط فيه ولا وكس.
وهذه هي الانطلاقة الحقيقية في الاتجاه للإصلاح، من أجل اجتماع الكلمة وتضافر الجهود ورفع الخلاف برمته.
فأمامنا جميعا طريقاً شاقاً وَعِرَاً في العمل الجاد، لرد عدوان العلمانيين والروافض وكل خبيث يتربص بالدعوة السلفية..
وقد شمت بنا المتصوفة والشيعة والمبتدعة، وصرنا حديث الأزقة والحارات، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وأستغفر الله لي ولكم.
وكتبه: أبو عمر، عادل سليمان القطاوي


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق