بقلم: أبو عمر، عادل سليمان القطاوي
الحمد لله، والصلاة والسلام
على رسول الله، صلى الله عليه، وعلى آله، وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فلا يخفى على مشارك في علوم
الحديث، أن الكلام على معاصرة الرواة بعضهم بعضاً، والتفتيش عن اللقاء والسماع،
أمر من الضرورة بمكان، حيث ينبني عليه إما الحكم بالانقطاع في الخبر، ومن ثم تضعيفه
ورده، أو الحكم بالاتصال ومن ثم تصحيحه وقبوله والاحتجاج به،
ولما كان هذا الأمر -من هذه
الحيثية- بهذه الأهمية، كان لعلماء الجرح والتعديل من الأئمة النقاد، اجتهاد كبير
في تحقيق هذه المسألة لما ينبني عليها من خطر.
ولكن مع ذلك، وقع بينهم اختلاف
ليس بالقليل في جمهرة من الرواة، نفى البعض سماعهم من شيوخهم وأثبته آخرون، مما
سبب اختلافا في الحكم على الأخبار.
وكما حققنا الأمر قبل ذلك
مرارا، وبينا أن المرجع في ذلك كله إنما هو الإسناد الصحيح الثابت.
وأن ورود الاسناد الصحيح
المتصل بالرواة الثقات، مقدم على قول الناقد المُعِلُّ بعدم السماع ما لم يقم على
دعواه الحجة البينة.
وقلنا كذلك – وسيأتي – أن الإعلال
بعدم السماع مرجعه الاجتهاد، إذ إن مبناه سبر الروايات ورؤية عدم السماع منها، أو
الحكم على ذلك تاريخياً اعتماداً على خبر غير ثابت أحياناً، أو بأثر ثابت يثبت عدم
السماع، وهو أقوى الحجج في ذلك.
ولكي نناقش هذه المسألة، سنمثل
ببعض الأسانيد الصحيحة التي أعلت بالانقطاع لعدم السماع ..
ولنمثل على ذلك ب
وهذه الأمثلة منتقاة من عمل
الإمام البخاري إذ إنه جمع أصح الصحيح، لنرى ما أثير حوله من نقد مرجعه إلى عدم
السماع.
ففي بعض الروايات من الصحيح، نفى
بعض النقاد سماع بعض الرواة من شيوخهم أو من يروون عنهم، فأخرجها البخاري أو مسلماً
في صحيحيهما محتجان بها.
ولأننا نشترط صحة الإسناد،
مثلنا هنا بعمل صاحبي الصحيح أو أحدهما، ولا يوجد فرقاً كبيراً ذو تأثير بين
النقاد وطبقاتهم، إذا كان الناقد أعل بعدم السماع دون أن يحتج عليه مسنداً..
فمن هؤلاء الرواة الذين وقفنا
على أكثرهم من بحث ماتع للدكتور نافذ حسين بعنوان " نفي النقاد سماع الرواة
من الشيوخ" وزدنا عليه ذكر بعض الرواة، وتركنا بعض ما ذكره، كما نقلنا أشهر
من نفى السماع وأشهر من أثبته، وأحيانا نشير إلى بعض الحجج للنافي والمثبت.
فمن هؤلاء الرواة:
1-
ابراهيم بن يوسف حفيد أبي إسحاق السبيعي.
نفى أبو نعيم سماعه من أبيه،
وقد روى له البخاري عن أبيه أربعة عشر حديثاً صرح بالسماع في بعضها.
2-
بشر بن شعيب بن أبي حمزة عن أبيه:
نفى سماعه من أبيه يحيى ابن
معين وأبو حاتم وأبو زرعة، بحكايات منقطعة، وأخرج له البخاري حديثاً في موضعين صرح
فيهما بالسماع، وقد رد ابن حجر على دعوى عدم السماع بحجج ظاهرة فليراجعها من شاء.
3-
بشير بن نهيك عن أبي هريرة:
روى الترمذي عن البخاري أنه لم
يسمع منه! ..
وقد روى له البخاري ومسلم عنه،
وتوجد مرجحات تثبت السماع، واحتجاج البخاري يؤيده.
كما رجحه ابن رجب بمرجحات قوية
فلتراجع.
4-
الحسن عن عمرو بن تغلب:
نفاه ابن المديني، وأثبت له
السماع ابن معين وأبو حاتم والبخاري في الصحيح، وفي بعضها التصريح بالسماع.
5-
الحسن عن أبي بكرة:
نفاه ابن معين والدارقطني،
وأثبته ابن المديني وتبعه البخاري وروى له أربعة أحاديث صرح في إحداها بالسماع وهو
حديث " إن ابني هذا سيد ".
6-
سليمان بن مهران الأعمش عن مجاهد بن جبر:
قال هشيم ووكيع وابن معين أنه
لم يسمع منه إلا أربعة أحاديث أو على الأكثر ثمانية أحاديث.
وتبعهم على ذلك في الجملة
يعقوب بن شيبة وأبو حاتم الرازي.
وخالفهم البخاري كما نقله عنه
الترمذي في العلل الكبير، فعد له ثلاثين حديثاً كلها يقول: حدثنا مجاهد.
وهذا لا ينفي وقوع التدليس من
الأعمش فيما يرويه عن مجاهد، مثل حديث الطفاوي في الصحيح.
ونقل الكرابيسي عن الشاذكوني
أن الأعمش سمع من مجاهد أقل من ثلاثين حديثاً.
فوافق قوله قول البخاري في
الجملة، والشاذكوني على ما فيه، إلا أنه حافظ عارف بهذا الشأن.
7-
سليمان بن يسار عن عائشة:
قال الشافعي والبزار: لم يسمع
من عائشة.
وأخرج له البخاري " قَالَ:
سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنِ المَنِيِّ، يُصِيبُ الثَّوْبَ؟ "، وعند أبي داود ومسلم
بلفظ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ تَقُولُ.
8-
عمران بن حطان عن عائشة:
نفى العقيلي وابن عبد البر
سماعه منها، وخرج حديثه البخاري عنه: قَالَ سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ الْحَرِيرِ. وفيه:
أن عائشة حدثته عن التصليب يهتكه النبي صلى الله عليه وسلم.
9-
مجاهد بن جبر عن عائشة:
نفى سماعه منها شعبة وعنه أحمد
ويحيى القطان، وعنه ابن المديني وابن معين، وعنه أبو حاتم.
إلا أن ابن المديني قال مرة:
سمع من عائشة.
وحديثه عنها مبسوط، وفي
الصحيحين وخارجهما التصريح بالسماع منها في حديث الغسل.
10-
يحيى بن يعمر عن عائشة:
رده أبو داود، وفي البخاري في
موضعين منه التصريح بأنها أخبرته. ومنه: عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ أَنَّ
عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ
الطَّاعُونِ.
11-
أبو اسحاق السبيعي عن البراء بن عازب:
نفى سماعه منه شعبه وابن أبي شيبة وابن المديني، وروى
حديثه عنه صاحبي الصحيح وأصحاب السنن مصرحاً في بعضها بالسماع، وقال بسماعه
البرديجي.
12-
عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك الأنصاري عن جده:
قال محمد بن يحيى الذهلي
والدارقطني: لم يسمع من جده.
وحديثه عنه في البخاري كتاب
الجهاد: من طريق الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ، يَقُولُ: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَلَّمَا يُرِيدُ غَزْوَةً يَغْزُوهَا إِلَّا وَرَّى بِغَيْرِهَا ".
وكان يروي عن أبيه وعمه عن
جده، فظن من ظن الإرسال لذلك.
13-
مسروق الأجدع عن أم رومان:
نفى سماعه منها جمع، وحديثه
عنها في البخاري: عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: سَأَلْتُ أُمَّ رُومَانَ.
وعلل الخطيب البغدادي عدم
السماع بعلل منها: أن أم رومان توفيت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم من طريق
ابن جدعان، ورده البخاري في التاريخ وقال أن حديث مسروق أسند، كما قال أبو نعيم:
بقيت بعد النبي دهراً.
وقول الواقدي ماتت عام ست من
الهجرة يخالف فيه رواية الثقات.
14-
معن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه:
نقل ابن رشيد العطار عن ابن
معين أنه لم يسمع منه، ورده بأن الرواية في الصحيحين التصريح بسماعه من أبيه.
وكذا الخلاف في سماع عبد
الرحمن من أبيه مشهور.
15-
عبد الله بن المثنى عن ثمامة، وثمامة عن أنس:
رده الدارقطني، بأنه مكاتبة
وليس فيه السماع، وفي رواية البخاري السماع من بعضهم ورجحه ابن حجر.
والبخاري نفسه يسوي بين
المكاتبة والسماع ويجعلهما متماثلين في القوة.
16-
خالد بن معدان عن المقدام بن معد يكرب:
قاله الاسماعيلي، وأن بينهما
جبير بن نفير، وفي البخاري حديثه عنه متصلاً وأثبت سماعه منه في التاريخ، ورجحه
ابن حجر.
17-
زهرة بن معبد عن ابن عمر:
توقف فيه أبا حاتم مع قوله بأنه
أدركه، وحديثه في البخاري يقتضي السماع.
18-
سالم بن أبي الجعد عن ابن عمرو بن العاص:
شكك فيه الدارقطني، وهو في
البخاري، وأثبت ابن المديني لقاءه وتبعه المزي.
19-
الأعمش عن أبي سفيان طلحة بن نافع:
نفاه البزار، وروايته عنه في الكتب الستة، وهو رَاوِيَتُه!!
فكيف يرد مثل هذا؟
وروى له البخاري حديثين مقرونا،
ووافقه ابن عدي.
20-
عامر بن شراحبيل الشعبي عن علي:
قاله الحازمي، وحديثه في
الصحيح، ووافق الدارقطني على سماعه منه حديث الرجم خاصة.
21-
عكرمة عن عائشة:
قاله أبو حاتم مرة، وحديثه في
البخاري، ووافقه أبو داود في سماعه منها.
22-
مجاهد عن عبد الله بن عمرو بن العاص:
قال الدارقطني: " بينهما
جنادة بن أبي أمية وهو الصواب ".
وحديثه في البخاري في مواضع
عنه، وقال بسماعه منه علي بن المديني، ورد الحافظ على الدارقطني بوروده عنه من
ثلاث طرق بغير واسطة.
23-
الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك:
قاله أحمد بن صالح المصري،
وروايته في صحيح البخاري من طريق الليث عن الزهري عنه.
وقال ابن معين: سمع من عبد
الله بن عبد الرحمن بن كعب، ومن أبيه، سمع من الإبن والأب كلاهما.
24-
منصور بن المعتمر عن عامر الشعبي:
قاله ابن معين، وروايته عنه في
البخاري في مواضع، وباقي الستة، وقال الكلاباذي: سمع منه.
25-
أبو اسحاق السبيعي عن سعيد بن جبير:
قاله البخاري، ثم روى عنه في
الصحيح معنعناً، وهو خارج الصحيح بصيغة السماع، فاقتضى تغير اجتهاد البخاري فيه،
والله أعلم.
26-
أبو عبد الرحمن عبد الله بن حبيب السلمي عن عثمان بن عفان:
قاله شعبة، وتلقاه عنه يحيى بن
معين وأحمد وحجاج الأعور وأبو حاتم.
وقال البخاري: سمع علياً
وعثمان وابن مسعود، وروى عنه حديثين في الصحيح.
وقال الذهبي: وفي قول شعبة
نظر.
ورجح الحافظ ذلك بترجيح عجيب: وهو
أن القراء اشتهر عنهم أنه قرأ القرآن على عثمان كما قاله عاصم بن أبي النجود،
فكأنه رجح الاسناد الضعيف على مجرد القول بعدم السماع.
وعندي أن ضعف عاصم في الحديث
في غير تخصصه في القراءة، فكأن حديثه في ذلك هنا صحيح لأنه من القراء، بخلاف اهتمامه
وحفظه للحديث. والله أعلم.
27-
أَبَّان بن عثمان بن عفان عن أبيه:
قال الأثرم: قلت لأحمد، أبان
بن عثمان سمع من أبيه ؟ قال: لا .
قال الحافظ في التهذيب: حديثه
في " صحيح مسلم " مصرح بالسماع من أبيه.
28-
قتادة عن أبي العالية:
قَالَ شُعْبَةُ كما في سنن أبي
داود: إِنَّمَا سَمِعَ قَتَادَةُ، مِنْ أَبِي الْعَالِيَةِ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ:
حَدِيثَ يُونُسَ بْنِ مَتَّى، وَحَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي الصَّلَاةِ، وَحَدِيثَ
الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ، وَحَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ، حَدَّثَنِي رِجَالٌ مَرْضِيُّونَ
مِنْهُمْ عُمَرُ، وَأَرْضَاهُمْ عِنْدِي عُمَرُ.
ونقض ذلك البخاري فروى في
صحيحه (6345) عن قَتَادَةُ، عَنْ أَبِي العَالِيَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو عِنْدَ الكَرْبِ يَقُولُ: «لاَ إِلَهَ
إِلَّا اللَّهُ العَظِيمُ الحَلِيمُ، لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ» ورواه مسلم في الذكر باب
دعاء الكرب رقم 2730.
والعجب أن وهب بن جرير روى هذا الحديث الأخير عن
شعبة عن قتادة مثله كما قاله البخاري.
29-
عبد الله بن بريدة عن أبيه:
قاله إبراهيم الحربي وحده،
وحديثه في البخاري وغيره عن أبيه، ووافقه عليه مسلم.
وله خارج الصحيحين التصريح
بالسماع من أبيه، وقد عاصره عمراً، فلا ينكر ذلك.
30-
عروة بن الزبير عن أم سلمة:
قال الدارقطني والطحاوي بينهما
زينب بنت أم سلمة، وحديثه عنها في البخاري، وقال الحافظ: سماعه منها ممكن فقد أدرك
من حياتها نيفا وثلاثين سنة، وهو معها في بلد واحد.
31-
قيس بن أبي حازم عن بلال بن رباح:
قاله ابن المديني، وحديثه في
البخاري في قصته مع أبي بكر.
وقيس مخضرم، وحدث عن كبار
الصحابة، والقرائن تثبت سماعه منه.
32-
موسى بن عقبة عن الزهري:
قاله الإسماعيلي وتبعه عليه
غيره، ولذلك عدوه من المدلسين!! وحديثه عنه في البخاري.
لكن المعاصرة ثابتة، والرواية
من كتابه معروفة.
33-
أبي إسحاق الفزاري عن أبي طوالة:
قال ابن مردويه بينهما زائدة،
ورده ابن حجر بأن زائدة جاء من طريق المسيب بن واضح وهو ضعيف، وما في الصحيح أصح،
بقرينة أنهم اطلعوا على كتاب السير لأبي اسحاق الفزاري فلم يجدوا فيه زائدة.
ونكتفي بهذا القدر ..
وإلا ففي كتاب ابن رشيد العطار
" غرر الفوائد المجموعة في بيان ما وقع في صحيح مسلم من الأحاديث المقطوعة
" مجموعة أخرى من هذه الأمثلة ..
ويحسن بنا أن نعلق هاهنا بمسائل:
الأولى: أن غالب هذا النفي للسماع من الائمة النقاد، ليس من
قبيل الإخبار الذي يحتمل الصدق أو الكذب، بل هو من باب الاجتهاد الذي يحتمل الصواب
أو الخطأ، لأن مبناه إما على خبر، فيقدم، أو على سبر روايات الراوي أو النظر في
التواريخ والمعاصرة واللقاء، وهذا اجتهاد صرف.
وهذه الفارق لا يقدره البعض قدره،
في كيفية التعامل مع أقوال النقاد وأحكامهم النقدية!
الثانية: اتفاق
أهل الحديث على شيء يكون حجة:
وهذا ليس في إثبات السماع ونفيه فقط، بل اتفاقهم في باب
العلل كله يكون حجة كذلك.
قال ابن أبي حاتم في المراسيل (703):
" قَالَ أَبِي: [ وذكر
عدم سماع الزهري من أبان بن عثمان، وحبيب بن أبي ثابت من عروة ] أَهْلَ الْحَدِيثِ
قَدِ اتَّفَقُوا عَلَى ذَلِكَ وَاتِّفَاقُ أَهْلِ الْحَدِيثِ عَلَى شَيءٍ يَكُونُ
حُجَّةً ".
قلت: وافقه في عدم سماع الزهري
من أبان، أبو زرعة وأحمد بن سلمة المصري، وخالفهم محمد بن يحيى الذهلي وحده.
وأما سماع حبيب بن أبي ثابت من
عروة، فأنكره أبو حاتم والبخاري، وقال أبو داود: روي عن الثوري أنه قال: ما حدثنا
حبيب إلا عن عروة المزني.
قلت: روى حبيب عن عروة حديث
المستحاضة، وحديث القبلة للصائم.
ولا شك أن اتفاق النقاد على شيء كهذا ولو لم يسندوه
يكون حجة، ما لم يتناقل من واحد في الأصل، فيكون مرجعه إلى قول ناقد واحد قلدوه
فيه.
الثالثة: من قرائن السماع:
المعاصرة وإمكان اللقاء هما
أكبر شاهدي عدل في جواز السماع..
وقد يأتي الخبر بصورة ظاهرة
الانقطاع، ولكنها في حكم الموصول لأن للراوي بالخبر خصوصية.
فالإمام البخاري روى في صحيحه
عن سعيد بن المسيب عن جده حزن قصة تغيير اسمه.
وروى عن مصعب بن سعد بن أبي
وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا فيما يخص سعد.
وروى عن عروة عن النبي صلى
الله عليه وسلم فيما يخص قصة زواجه من عائشة.
وروى عن نافع عن عمر قصة فرض
العطاء للمهاجرين.
وأشباه ذلك كله قرائن ترجح
الوصل وإن لم يظهر السماع، بل السماع فيها محمول بداهة عن صاحب القصة، فسعيد سمعه
من أبيه عن جده، وعروة سمعه من عائشة، ومصعب سمعه من سعد، ونافع سمعه من ابن عمر.
وقولهم قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم تقديره: قال لعائشة، قال لسعد، قال لحزن بن أبي وهب جد سعيد، قال لابن
عمر، إذ في المتن ما يؤكد ذلك ويثبته.
فكأنهم يروون القصة بعلو مع
معرفتهم ومعرفة السامعين ما يريد.
ويخرج البخاري مثل هذا إذا كان
الراوي معروف السماع والتحديث عن صاحب القصة أو من سمعها.
الرابعة:
قد يختلف النقل عن الناقد في
عدم السماع، فينفيه مرة ويثبته أخرى، كما في كلام أبي حاتم في سماع عكرمة من
عائشة.
ففي المراسيل قال لم يسمع
منها، بينما في الجرح والتعديل أثبت السماع.
وكلام ابن المديني كذلك، قال
فيما نقله عنه العلائي: لم يسمع من أحد من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي
نقل آخر عنه قال: سمع من عائشة.
وهذا مما يثبت أن غالب دعوى
عدم السماع إنما هي اجتهادية قد تتغير لورود الحديث المتصل بخلافه.
الخامسة: التفتيش عن علة عدم السماع؟
توجد قرائن تجعل الناقد يصرح جازماً
بعدم السماع، وذلك حسبما رأى من مرجحات، نذكر منها:
- أن
الناقد قد يجزم بعدم السماع من أجل رواية جاءته من طريق فيها ضعف فيحكم لهذا بعدم السماع،
مثل اعتماد ابن معين في عدم سماع الحسن من أبي بكرة على رواية مبارك بن فضالة، وهو
معروف بالتدليس الشديد ومخالفة أصحابه كما قاله أحمد وغيره.
وقد يأتي الأمر على عكس هذه
الصورة، وهي أنهم قد يذكرون أحيانا أن فلاناً لم يسمع من فلان، ويريدون بذلك أن
السماع لم يأتي من طريق صحيح.
- أن
الناقد قد يجزم بعدم السماع لأنه يرى الجادة أن يكون بينهما واسطة، وهذا ليس
بقاطع، فقد يروي الراوي عن شيخه بواسطة، ثم يرويها عنه مباشرة إذا تيسر له ذلك.
- أن
الناقد قد يجزم بعدم السماع ويكون اعتماده على عدم اللقي أو المعاصرة ويعرفه غيرهم
ويثبته.
- أن
الناقد قد يجزم بعدم السماع لأنه ليس من مشاهير أصحاب الشيخ الذي يروي عنه،
ويقابله عدم استحالة ذلك لملاقاته في سفر أو حبس أو عزلة أو حج أو غير ذلك.
- أن
الناقد قد يجزم بعدم السماع لأنه عرف من الراوي الذي يعنعن أنه يرسل كثيراً عمن لم
يلقه، ولم يسمع منه، فيعمم ذلك على كل من يعنعن له، ولم يجد له إسنادا يعتد به.
وهذا يؤكد أن الإسناد إذا وجد
قدم الإتصال والسماع على قول الناقد المجرد.
كما أن أكثر من ينفي السماع
ينقل ذلك عن غيره، وقد يكون مرجع الجميع قول لواحد من النقاد.
مثل نفي سماع مجاهد من عائشة،
أصله عن شعبة ونقله عنه أحمد، ونقله يحيى القطان وعنه ابن المديني وابن معين وعنه
أبو حاتم، وهكذا.
وعندما ينكر شعبة سماعه منها
فذلك لأنه حكم على ما عنده من روايات، وبنى حكمه على استنتاج.
وكذلك كل من نفى سماع مسروق من
أم رومان فإنما اعتمد حجج الخطيب البغدادي، ولذلك قال الحافظ ﺍﺒﻥ ﺤﺠﺭ: " ﺘﻠﻘﻰ
ﻫﺫﺍ ﺍﻟﺘﻌﻠﻴل ﻟﺤﺩﻴﺙ ﺃﻡ ﺭﻭﻤﺎﻥ ﺒﺎﻻﻨﻘﻁﺎﻉ ﺠﻤﺎﻋﺔ ﻋﻥ ﺍﻟﺨﻁﻴﺏ ﻤﻥ العلماء ﻭﻗﻠﺩﻭﻩ ﻓﻲ ﺫﻟﻙ، ﻭﻋﺫﺭﻫﻡ
ﻭﺍﻀﺢ، ﻭﻟﻜﻥ ﻓﺘﺢ ﷲ ﺒﺒﻴﺎﻥ ﺼﺤﺔ ﻤﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﺼﺤﻴﺢ وبيان خطأ من قال أنها ماتت سنة ست، وأول
من فتح هذا الباب [ أي: رده] صاحب الصحيح. اهـ
وقد سبق الإمام شمس الدين ابن
قيم الجوزية إلى هذا التحقيق، الحافظ ابن حجر فقال عمن ادعى تصحيف (سَأَلتُ) إلى (
سُئِلَت) كما في زاد المعاد (3/238):
" وَمِمَّا وَقَعَ فِي
حَدِيثِ الْإِفْكِ أَنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أبي وائل عَنْ
مسروق، قَالَ: سَأَلْتُ أم رومان عَنْ حَدِيثِ الْإِفْكِ فَحَدَّثَتْنِي.
قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ: وَهَذَا
غَلَطٌ ظَاهِرٌ، فَإِنَّ أم رومان مَاتَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي قَبْرِهَا، وَقَالَ: «
مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى امْرَأَةٍ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ فَلْيَنْظُرْ
إِلَى هَذِهِ » قَالُوا: وَلَوْ كَانَ مسروق قَدِمَ الْمَدِينَةَ فِي حَيَاتِهَا،
وَسَأَلَهَا لَلَقِيَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَسَمِعَ مِنْهُ، ومسروق
إنَّمَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ بَعْدَ مَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قَالُوا: وَقَدْ رَوَى مسروق
عَنْ أم رومان حَدِيثًا غَيْرَ هَذَا فَأَرْسَلَ الرِّوَايَةَ عَنْهَا، فَظَنَّ
بَعْضُ الرُّوَاةِ أَنَّهُ سَمِعَ مِنْهَا، فَحَمَلَ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى
السَّمَاعِ، قَالُوا: وَلَعَلَّ مسروقا قَالَ: سُئِلَتْ أم رومان، فَتَصَحَّفَتْ
عَلَى بَعْضِهِمْ: سَأَلَتْ، لِأَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَكْتُبُ الْهَمْزَةَ
بِالْأَلْفِ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
وَقَالَ آخَرُونَ: كُلُّ هَذَا لَا يَرُدُّ
الرِّوَايَةَ الصَّحِيحَةَ الَّتِي أَدْخَلَهَا الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ،
وَقَدْ قَالَ إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ وَغَيْرُهُ: إنَّ مسروقا سَأَلَهَا وَلَهُ
خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَمَاتَ وَلَهُ ثَمَانٍ وَسَبْعُونَ سَنَةً، وأم رومان
أَقْدَمُ مَنْ حَدَّثَ عَنْهُ، قَالُوا: وَأَمَّا حَدِيثُ مَوْتِهَا فِي حَيَاةِ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنُزُولِهِ فِي قَبْرِهَا، فَحَدِيثٌ لَا يَصِحُّ،
وَفِيهِ عِلَّتَانِ تَمْنَعَانِ صِحَّتَهُ، إحْدَاهُمَا: رِوَايَةُ عَلِيُّ بْنِ
زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ لَهُ، وَهُوَ ضَعِيفُ الْحَدِيثِ لَا يُحْتَجُّ
بِحَدِيثِهِ، وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ رَوَاهُ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍّ
عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم والقاسم لَمْ يُدْرِكْ زَمَنَ رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم، فَكَيْفَ يُقَدَّمُ هَذَا عَلَى حَدِيثٍ إسْنَادُهُ كَالشَّمْسِ يَرْوِيهِ
الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ وَيَقُولُ فِيهِ مسروق: "سَأَلْتُ أم رومان
فَحَدَّثَتْنِي" وَهَذَا يَرُدُّ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ: سُئِلَتْ. وَقَدْ
قَالَ أبو نعيم فِي كِتَابِ مَعْرِفَةِ الصَّحَابَةِ: قَدْ قِيلَ: إنَّ أم رومان
تُوُفِّيَتْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ وَهْمٌ ".
انتهى من الزاد.
وهو تحقيق نفيس للغاية.
ونخرج من هذا البحث: أن الذي
يقطع بعدم السماع أو إثباته هو النقل الصحيح ..
وندلل على ذلك بحكاية سماع أبي
إدريس عائذ الله بن عبد الله الخولاني من معاذ بن جبل رضي الله عنه.
فأما من نفى السماع، فكثير،
منهم أبو زرعة الدمشقي أولاً وأبي حاتم الرازي..
قال أبو زرعة: وأبو إدريس أروى عن التابعين من جبير
بن نفير، فأما معاذ بن جبل، فلم يصح له منه سماع، وإذا حدث أبو إدريس عن معاذ،
أسند ذلك إلى يزيد ابن عميرة الزبيدي.
وقال في موضع آخر: إذا حدث عن معاذ من حديث الثقات،
الزهري وربيعة بن يزيد أدخلا يزيد ابن عميرة الزبيدي.
وقال أيضاً: قال محمد بن أبي عمر، عن ابن عيينة، عن
الزهري عن أبي إدريس: أنه أدرك عبادة بن الصامت، وأبا الدرداء، وشداد بن أوس،
وفاته معاذ بن جبل.
ثم قال أبو زرعة الدمشقي كما في تاريخ دمشق (26/156):
فأما الرواية التي توجب لقاء أبي إدريس لمعاذ فمن
أحسنها مخرجاً وأوثقها حاملاً، فيزيد بن أبي مريم.
حدثنا محمد بن المبارك، قال: حدثنا الوليد بن مسلم،
عن يزيد بن أبي مريم، عن أبي إدريس، قال: جلست خلف معاذ بن جبل، وهو يصلي، فلما
انصرف من الصلاة، قلت: إني لأحبك لله، قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: " المتحابون في الله، في ظل عرشه، يوم لا ظل إلا ظله ".
وقال أبو عمر بن عبد البر: سماع أبي إدريس من معاذ،
عندنا صحيح، من رواية أبي حازم وغيره، فلعل رواية الزهري عنه، أنه قال: فاتني معاذ
بن جبل، أراد في معنى من المعاني، وأما لقاؤه وسماعه منه فصحيح غير مدفوع، وقد سئل
الوليد بن مسلم - وكان عالماً بأيام أهل الشام - هل لقي أبو إدريس الخولاني معاذ
بن جبل؟ فقال: نعم، أدرك معاذ بن جبل، وأبا عبيدة، وهو ابن عشر سنين، ولد يوم
حنين، سمعت سعيد بن عبد العزيز يقول ذلك. اهـ من التهذيب.
قلت: تأويل ابن عبد البر غير
راجح في نظري، لأن الظاهر أنه يريد بقوله فيمن روى عنهم " ووعيت عنه " كثرة
السماع للحديث، وفي تخصيص معاذ بنفي ذلك، تصريح منه بعدم السماع كما هو ظاهر ولا
يرد مثله بتأويل.
وقد رواه عن الزهري الحفاظ:
فرواه البخاري عن علي ابن المديني ورواه أبو زرعة الدمشقي عن العدني كلاهما عن
سفيان عن الزهري عن أبي إدريس به.
ورواه أبو حامد ابن الشرقي عن
محمد بن يحيى الذهلي عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري به.
ورواه أبو بكر الحميدي أخبرنا
سفيان قال: هذا الذي حفظنا من الزهري عن أبي إدريس الخولاني .. فذكره.
رواها عنهم ابن عساكر في تاريخ
دمشق (26/155) وغيره.
وكلهم حفاظ أثبات، فلا الإسناد
يساعد على رده، ولا ظاهر ألفاظه.
لكن له وجه عندي وهو محمل جائز
لغة وعرفاً.
وهو: أن قول أبي ادريس فيمن
ذكرهم من الصحابة بـ " وعيت عنهم " يريد به روى عنهم ووعى الكثير من
الروايات، أو يريد بالوعي هنا ظاهره اي الحفظ والفهم.
فإن صح هذا المخرج فيجوز سماعه
الحديث الواحد من معاذ، لأن تصريح الرواية فيها أنه جالسه، وسأله، وكلمه، ورد عليه
معاذ، وحدثه، وكل هذا لا يصح أن يكون بينهما واسطة.
ولهذا فتصريح الراوي بنفسه قد
يكون على أنه لم يسمع منه كثيراً، وظاهر الاسناد هنا يثبت سماعه منه هذا الحديث
الواحد.
وهو تفصيل وسط لفض هذا
الاشكال. والله أعلم.
ومثال آخر: وهو في نفي السماع بين مسروق الأجدع وأم رومان:
فقد اعتمد الذين نفوه على أخبارٍ
تاريخيةٍ واهية، رواها مثل ابن جدعان والواقدي، فأثبتوا بذلك أنها توفيت في زمن
النبي صلى الله عليه وسلم، مخالفين الروايات المتصلة الصحيحة عن الثقات التي تثبت
أنها توفيت بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد حقق ذلك الحافظ ابن حجر، ورد على
الخطيب حجج دعاويه عدم سماعه منها كما أشرنا أعلاه.
ونخلص من هذا المثال أيضاً:
تقديم الإسناد الصحيح على قول أهل التاريخ ورواية الضعفاء، وأنه لا يعلل الصحيح
المتصل عن الثقات برواية الضعفاء وكلام أهل التاريخ المنقطع.
فالأصل إذاً هو: ترجيح ظاهر الإسناد على دعوى عدم السماع المجردة عن الدليل:
وقد اعتمد الامام البخاري في
سماع بعض الرواة من بعضهم مع علمه بنفي غيره، وذلك بظاهر الإسناد، مثل رواية أبي
موسى عن الحسن عن أبي بكرة، وأخرج حديثه مطولاً في كتاب الصلح وقال في آخره:
" قال لي علي بن عبد الله
[المديني]: إنما ثبت عندنا سماع الحسن من أبي بكرة بهذا الحديث ".
فهذا الكلام أصل يثبت تقديم ظاهر
الاسناد الصحيح المتصل برواية الثقات، على كلام الناقد في عدم السماع، وأن نفي
السماع قبل ورود الإسناد لا يشكل على السماع.
وكلام أبي زرعة الدمشقي في
ترجيح سماع أبي إدريس الخولاني من معاذ إنما هو بمجيء الإسناد فقد قال: فأما
الرواية التي توجب لقاء أبي إدريس لمعاذ فمن أحسنها مخرجا وأوثقها حاملا، فيزيد بن
أبي مريم، فذكره ..
فأوجب تقديم ظاهر الإسناد الصحيح المتصل على مجرد
النقل في عدم السماع.
ولذلك يصح أن يقال:
تقديم ظاهر الاسناد هو الأصل المتفق عليه، وهو عمل
المتقدمين ومنهجهم.
هذا والله أعلى وأعلم.
وأستغفر الله وأتوب إليه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق