بقلم: أبي عُبُود
عبدالله بن عُبُود باحمران
20/ربيع الأول/1436ه الموافق 11/يناير/2015م
هل الأئمة النُّقَّاد المتقدمون يأخذون بظاهر الإسناد؟ .
أبدأ بالإجابة عن هذا السؤال مجملاً
فأقول : نعم.
ثم أُثبت ذلك بأمرين:
·
الأول:
قيمة الإسناد في معرفة المنسوب إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من حيثُ
القبول أو الرد :
الحكم على الحديث يكون بالنظر في
الإسناد والمتن تابع له .
فإذا صح الإسناد واستقام من حيث رواته
عدلاً وضبطاً ومن حيث تحملهم للحديث وأدائهم له فلابد أن يصح المتن نسبة إلى
النبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
وإذا لم يصح المتن نسبة إلى رسول الله
صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلابد أن يكون لخلل في الإسناد .
وهنا يأتي الفرق بين صحة معنى الكلام
الحسن وبين صحة نسبة معنى الكلام الحسن إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
فليس كل قول معناه حسن وصحيح أو مطابق للواقع يلزم أن يكون
قاله رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
فالإسناد هو الذي يحقق هذا الفرق .
أما النظر الى قول المعنى الحسن و الصحيح
المنسوب إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بدون النظر إلى إسناده ففاعل
هذا سينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الذي لم يقله فيقع في النهي
الوارد في ذلك .
والعلوم الخادمة للإسناد كعلم الرواة
أو الرجال بجميع فروعه إنما هي لأجل التأكد من صحة تناقل المتن من طبقة إلى طبقة
وبأن المتن صحيح النسبة إلى الصحابي الذي نسبه إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى
آله وسلم وكذلك الخروج بالمتن الراجح عند الاختلاف وبخاصة القادح في سياقه .
لذلك أتى التنبيه على ذلك والتأكيد
عليه من أقوال أئمة أهل الحديث ونُقَّاده:
1)- قال شعبة
بن الحجاج (ت160ه): (إنما يُعلم صحة الحديث بصحة الإسناد).
(التمهيد) لابن عبد البَر(1/57).
2)- قال سفيان
الثوري (ت161ه): (الإسناد سلاح المؤمن إذا لم يكن معه سلاح فبأي شيء يقاتل)
(المجروحين) لابن حبان) (1/27) .
3)- قال ابن
المبارك (ت181ه): (الإسناد من الدين ولولا الإسناد لقال مَن شاء ما شاء) .
(مقدمة صحيح مسلم) وزاد الترمذي في
العلل آخر جامعه: (فإذا قيل له مَن حدَّثكَ بقي).
4)- قال يحيى
بن سعيد القطان (198ه): ( لا تنظروا إلى الحديث ولكن انظروا إلى الإسناد
فإن صح الإسناد وإلا فلا تغتروا بالحديث إذا لم يصح الإسناد) .
(تهذيب الكمال)(1/165) ، (سير أعلام
النبلاء) (19/188).
5)-قال أبو حاتم
الرازي (ت277ه) : (وتقاس صحة الحديث بعدالة ناقليه وأن يكون كلاماً من كلام
النبوة ويعلم سقمه وإنكاره بتفرد مَن لم تصح عدالته بروايته) .
(تقدمة الجرح والتعديل) لابن أبي حاتم
(1/351).
وبعد التأكد من أن هذا المتن مما صحت
نسبته إلى النبيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيحققون ضمان عدم إدخال متن في
حديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو ليس منه أو إخراج متن من حديث
رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو منه .
بعد هذا التأكد يأتي الاستنباط
والاحتجاج والعمل، لذلك كان الإمام الشافعي يقول للإمام أحمد: (حديث كذا وكذا قوي
الإسناد محفوظ ؟ فإذا قال أحمد : نعم جعله أصلاً وبنى عليه). (تقدمة الجرح
والتعديل) لابن أبي حاتم (1/302).
قال الإمام
الشافعي: ( الأصل قرآن أوسنة ... واذا اتصل الحديث عن رسول الله صلى الله
عليه وعلى آله وسلم وصح الإسناد فيه فهو السنة) .(الكامل) لابن عدي(1/116).
قال الإمام عبدالرحمن
بن مهدي (ت198ه): (لا يجوز أن يكون الرجل إماماً حتى يعلم ما يصح مما لا يصح
وحتى لا يحتج بكل شيء) (حلية الأولياء) لأبي نعيم (9/ترجمته).
قال الإمام علي
بن المديني (ت234) : (التفقه في معاني الحديث نصف العلم ومعرفة الرجال نصف
العلم) (سير أعلام النبلاء)للذهبي(11/47/48).
·
الآخر
: الدليل العملي لتحقيق هذه الأقوال وهو :أخذهم بظاهر الإسناد :
فقد كان الأئمة النُّقَّاد المتقدمون
يأخذون بظاهر الإسناد في حكمهم تصحيحاً وتضعيفاً إذا لم يظهر لهم فيه ما يوجب
الاعلال أو القبول .
ثم إذا ظهر لهم بخلاف ذلك رجعوا عنه من
التصحيح إلى التضعيف ومن التضعيف إلى التصحيح وذلك يكون بعد فترة قد تطول أو تقصُر
.
قال الإمام النَّقَّاد علي بن المديني
(234ه) :(رُبما أدركت علة حديث بعد أربعين سنة) (الجامع لأخلاق الراوي وآداب
السامع) للخطيب البغدادي (2/273).
وكذلك قد يقف على ما يقوِّي حديثاً بعد
كذا وكذا .
وأمثّل على ذلك بعمل الأئمة النُّقَّاد
الآتي ذكرهم بما فيه كفاية إن شاء الله لإثبات ما قلتُه:
1) يحيى بن سعيد القطان (ت198ه):
أ)- رجع عما كان ينكره فصححه ..
ب)-فقد أنكر رواية عبيد الله بن عمر
وحكم عليها بالخطأ ثم صححها لمتابعة راوٍ ضعيف له هو أخوه عبدالله كما بيَّن ذلك
الحافظ ابن رجب في (شرح علل الترمذي)(1/453/454).
وفي صنيع هذا الإمام النَّقَّاد أن
الراوي الضعيف المُعتبر به يقوى الثقة بل ورفع به النكارة فكيف بمن هو مثله في الضعف؟ .
2) علي بن المديني (ت234ه):
أ)- رجع عما كان يحسنه فأعلّه:
ب)- فقد كان يُحسِّن حديث عبدالرحمن بن
عوف في سجود السهو ثم وقف له على علة. كما في (فتح الباري)لابن رجب (9/465).
3) أبو داود (ت275ه):
أ)- أنكر حديث سليمان بن موسى في صوت
الزمارة ثم للمتابع رجع عن ذلك .
ب)- بيّن ذلك الحافظ ابن رجب في (نزهة
الأسماع)(2/250/مجموعة رسائل ابن رجب/تحقيق ناصر النجار) فقال: (فإن قيل: قد قال
أبوداود: هذا حديث منكر ...وكأنه قاله قبل أن يتبين له أن سليمان بن موسى توبع
عليه فلما تبين له أنه توبع عليه رجع عنه.).
4) أبو حاتم الرازي (ت277ه):
أ)- رجع عما أنكره للمتابع :
ففي (علل الحديث) لابنه (1/28رقم48): (
سمعت أبي يقول كنت أنكر هذا الحديث لتفرده فوجدت له أصلاً حديث ابن المصفا...) .
ب)- رجع عما أنكره فقوّاه وصححه:
ففيه في (1/281/رقم833): (قال أبي: كنا
ننكر حديث الزهري حتى رأينا ما يقويه، أخبرنا...فعلمنا أن حديث الزهري صحيح...).
ج)- رجوعه عن الغرابة بعد تبين أن فيه
علةً:
ففيه في (1/40رقم 84): (قال أبي: هذا
الصحيح وكنا نظن أن ذلك غريب ثم تبين لنا علته..) .
وفيه في (1/107رقم288): (وقال أبي: كنت
معجباً بهذا الحديث وكنت أرى أنه غريب حتى رأيت سهيل عن...فعلمت أن ذاك لزم
الطريق).
وفيه في (2/76/رقم1719): (قال أبي: كنت
معجباً بهذا الحديث حتى أصبت له عورة.. رأيت...فعلمت أن حديث عبدالرزاق خطأ).
وفيه في (2/100رقم1793): (قال أبي: كنا
نرى أن هذا غريب كان حدثنا به...حتى حدثنا ...فعلمت أنه قد أفسد على عبدالعزيز بن
مسلم وبين عورته...).
د)- رجع عما كان حسّنه بعد أن تبين أن
فيه علةً:
ففيه في (1/137رقم380): (قال أبي: كنت
أستحسن هذا الإسناد فبان لي خطأه ...).
وفيه في (1/428رقم1287): (قال أبي:
وكنت استحسن حديث يزيد بن هارون...حتى كتبت هذا الحديث فإذا هو قد أفسد ذلك
الحديث).
5) أبو الحسن الدارقطني (ت385ه) :
أ)- اتبع ابنَ معين في الحكم على حديث
: (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة) بالبطلان وتحميله سُويداً لتفرد سُويد بن
سعيد به.
ب)- ثم وجد الدارقطنيُّ متابعاً ثقة
لسُويد كما قال سُويد سواء فرجع عن تحميل سُويد هذا الحديث..
فقال الدارقطني: (وتخلص سُويد وصحَّ
الحديث عن أبي معاوية)
(سؤالات حمزة السهمي للدارقطني) (رقم326/تحقيق
أبو عمر الأزهري)و(تهذيب الكمال) (12/255).
وأختم عمل الأئمة النُّقَّاد بأخذهم
بظاهر الإسناد:
6)- الإمام أحمد بن حنبل :
وأخّرتُه لاحتمال عدم التسليم بما
بنيتُ عليه أنه تراجع :
١)- أنه لا يخرج في مسنده ما هو منكر عنده .
٢)- يُضم إليه قوله : (المنكر أبداً منكر) أي:
لا يحتاج إليه بخلاف الضعيف .
٣)- والمسند الأحاديث التي فيه إذا رجع اليها
الناس سيجدون فيها ما يحتاجونه .
بعد هذا التمهيد أذكر :
١)- حديث عبد الله بن مسعود : ( إن الإسلام بدأ
غريباً ) :
أ) - أنكره كما في (المنتخب من العلل)
للخلال(رقم11) .
ب)- وأخرجه في مسنده (3784).
٢)- حديث عبد الله بن مسعود: (ليلني منكم أولوا
الأحلام ..الحديث) :
أ)- أنكره كما في (علل الأحاديث) لابن
عمار .
ب)- أخرجه في مسنده بالسند الذي أنكره
ومتنه (4373) .
٣)- حديث جابر في الاستخارة :
أ)- أنكره كما في ترجمة عبدالرحمن بن
المَوَال من (الكامل) لابن عدي.
ب)- وأخرجه في مسنده (14642) .
وأزيد فأقول :
هذه الأمثلة وغيرها فيها دليل على أن
الحكم على الحديث بُني على غلبة الظن والاحتمال الراجح كما نص على ذلك الحافظ
العلائي (ت761ه ) في (جامع التحصيل) (ص132) والحافظ ابن حجر (ت 852ه) في (فتح
الباري) (1/585) و (النكت) (ص498،657/تحقيق وتعليق الدكتور ماهر الفحل) .
والله أعلم .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق