مناقشة علمية مع الدكتور: عبد السلام أبو سمحة
بقلم : أبو عمر، عادل سليمان القطاوي
تقديم:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه، وعلى آله،
وصحبه وسلم..
أما بعد:
فهذه وريقات معدودات، جَمَعَتْ مناقشة ( للدكتور الفاضل عبد السلام أبي
سمحة - وفقه الله - ومن على طريقته في التفريق المنهجي بين المحدثين متقدميهم
ومتأخريهم ) حول قضية مهمة من قضايا الإعلال الحديثي وهي: « صور الإعلال عند الأئمة النقاد، ومتى يتوجب تقليدهم؟ »
وهي مسائل مهمة يجري دوماً حولها الخلاف، فأحببت أن أناقشها بعلمٍ - لا
يخلوا من النقل والتمثيل - وبحلمٍ ورفقٍ، إذ إننا جميعاً والحمد لله من المنتصرين
لمدرسة أهل الحديث بعامة.
ولا شك أن النقاش والتحاور، يضيق الفجوة التي يزداد خرقها كل يوم.
وبها تتجمع القلوب وتتوحد القوى، في مجابهة الحرب على السنة وأهلها.
والله أسأل أن أوفق بقول الحق أولاً، والعمل به ثانياً..
والحمد لله رب العالمين.
صور الإعلال عند أئمة الحديث المتقدمين:
من المسلم به: أن الإعلال قد يكون في الأسانيد، وقد يكون في المتون،
وقد يكون فيهما معاً، كما يقع كذلك في الرواة جرحاً وتعديلاً.
والعلة فيها القادح والتي يلزم منها عدم الثبوت والعمل..
وفيها غير القادح، والتي يلزم منها الثبوت والعمل به لذاته أو بما
يعضده، حسب درجة الإعلال..
وكذلك مما لا خلاف فيه، أن الإعلال لطريقٍ بعينه، لا يعني إعلال كل
طرق الحديث ورواياته..
بل إعلال وجه واحدٍ من أوجهِ الطريق، لا يعني إعلال الطريق نفسه..
وبما أن أوجه الإعلال كثيرة لا تحصر، والمعروف منها في جملته محفوظ
مسطور، إلا أن ما يهمنا هنا هو معرفة: صور الإعلال عند أئمة النقد المتقدمين..
وسنجد فيه ثلاث صور، قد وردت عن جمهور أئمة النقد، لم ينفرد بها أحد
دون غيره من الحفاظ، ولا انفردت بها طبقة من طبقاتهم دون باقي طبقات عصر الرواية
وجهابذة أئمة النقد.
الصورة الأولى:
وهي أدناهن في القوة: التعليل المختصر
(أي: إشارة).
وهو في الغالب عباراتٍ مجملةٍ بقدرِ سؤال السائلِ، ودائما ما يأتي
الرد عليه مختصراَ بكلمة أو بكلماتٍ معدودةٍ ..
والأمثلة على هذا كثيرة جداً، إذ إنها هي الغالب على صور الإعلال عند
النقاد، كما وصلنا في كتب النقد والإعلال ..
كأن يُسأل الناقد عن حيث فيقول:
هذا باطل، أو منكر، أو خطأ، أو صوابه مرسل، أو موقوف.. وهكذا..
وأكثر هذا وجوداً في الواقع النقدي، إنما يكون جواباً على سؤالٍ سئل
عنه الناقد لطريقٍ معينٍ من طرق الحديث ..
وقد كان بعض الأئمة يفعل ذلك ضناً بالعلم لغير أهله، أو تشجيعاً للبحث
والتنقيب للطلاب أو للسائل خاصة.
والإعلال بالإشارة، دون الشرح والبيان والاستدلال، قد يرجع إلى عدة أسباب،
نذكر منها الآتي:
الأول: أن يكون دليل العلة ظاهراً لا
يحتاج إلى سوق الأسانيد لإثباته، لأن هذا مما يعرفه أهل الصنعة، ولا يحتاج لكلفة
في معرفته، وكأنه بدهي.
الثاني: أن يكون هذا الحديث مما
اختلف في حكمه، فيقول الناقد رأيه مجملاً دون بيان أو شرح، ليقول: هذا رأيي فيه
بخلاف من صححه أو قبله مثلاً.
الثالث: أن يكون من باب التعليم للسائل وحثه على البحث وتشويقه للمعرفة.
الرابع: أن يكون من باب الشك والتخوف مما يجعل الناقد يقدم العلة.
وهذا لعله يكون رأياً للناقد، اجتهاداً منه، قاله على الظن والاحتمال،
فيسوق العلة بالإشارة على أنه يراها كذلك.
ومعلوم أن المتشددين دائماً ما يوقفون المرفوع، ويرسلون الموصول، ويشكِكُونَ
في تَفَرُّد الثقات، وغير ذلك مما هو مشهور معروف من باب الاحتياط.
ولمثل هؤلاء يقول الإمام الحجة، أمير المؤمنين في العلل بحق، علي ابن
المديني كما في مقدمة الكامل لابن عدي:
" إذا ذهبت تغلب هذا الأمر يغلبك، فاستعن عليه بـ
"أظن" و "أرى" .
وهذا الكلام من الوضوح بمكان لا يخفى ..
وهو كالتوجيه للذين يعلون الأحاديث بالجزم، أو ينفون ورودها في طرق
أخرى فيجزمون بالتفرد أو الإعلال..
وكأنه يقول لهم: أنَّ ما تحكمون عليه قد توجد له طرقاً لم تطلعوا
عليها، فالأولى أن تصرحوا بأنه ظن لكم، أو رأي عن اجتهاد، وفوق كل ذي علمٍ عليم.
وبلا شك: لا يقال بوجوب الأخذ المطلق بهذا التعليل المجمل والتسليم له
وعدم التفتيش والبحث وراءه، دون ذكر العلة وبيانها، فضلا عن ذكر دليلها، لأن هذا
معناه أنهم معصومين من الخطأ.
ولذلك قال الشيخ مقبل الوادعي - رحمه الله -:
"وقع منهم - أي أئمة النقد المتقدمين – الوهم، وقد رد بعضهم على
بعض وصحح هذا ما ضعفه ذاك، وجرح هذا ما عدله ذاك، ولا يزال الاختلاف في الأمة فيما
سبيله الاجتهاد ".
لذلك عندما يأتي أحد الأفاضل فيزعم، أنهم وقفوا على كل الطرق جميعها!!
واطلعوا على كل الأحاديث والآثار!!
ويقول عن طرق لم يذكروها: مؤكد أنهم وقفوا عليها!!
هكذا رجماً بالغيب، وكأنه يعطيهم شهادة الكمال والإحاطة، وهي لله
تعالى لا ينازعه فيها مخلوق.
والقرائن هي التي تحدد تقديم قول الناقد أو مخالفته، أو الترجيح إذا
خالفه ناقد مثله، ومتى يقدم ظاهر الإسناد على قوله المجمل؟ وهل الإعلال على حديث
بعامة أم على طريق بعينه؟ وهل جاءته متابعات تؤكده أم لا؟
فقد يقدم قوله أو يخالف فيه، بأمور كثيرة تبين للباحث تقديم كلام
الناقد أو تقديم ظاهر صحة الإسناد، أو قول من خالفه.
وإعلال الناقد للحديث بالإشارة = كالجرح الغير مفسر، قياساً..
فإذا جاءت الطرق والمتابعات ترجح ما أَعلَّ به الناقد، قدم قوله.
وإن لم توجد، كان الوقوف على الأصل في ظاهر صحة الإسناد المتصل
بالثقات هو الحجة.
اللهم إلا إذا كان إعلال الناقد عن حكاية رآها أو عاصرها من شيوخه أو
اطلع على أصل الراوي وبين خطأه في روايته أو ما هو من هذا القبيل، وهذا أليق
بالصورة الثانية والثالثة كما سيأتي، ولا شك في تقديم قول الناقد في ذلك، إلا إذا
خولف من مثله، فالعمل حينئذٍ على الترجيح كذلك.
الصورة الثانية - وهي أعلى من الأولى في
القوة وأدنى من الثالثة -: التعليل بذكر العلة إجمالا.
بينا أن الناقد قد يشير في الصورة السابقة للعلة، بقوله: باطل، أو
منكر، أو كذب، الخ..
وفي هذه الصورة الثانية، قد يعيد قوله في الحكم على الرواية، وقد يزيد
عليه وجه الإعلال، أو قد يكتفي بوجه الإعلال فقط بيانا منه للحكم..
فيقول مثلاً عن حديث ما:
هذا منكر، ليس من حديث فلان ولا هو في أصوله.
أو يقول: هذا باطلٌ، ما حدث به فلان قط، وإنما هو من حديث فلان!!
أو يقول عن إسناد حديث متصل: صوابه مرسل، أو موقوف، أو من قول فلان لم
يتعدى الصحابي..
أو يقول: دلسه فلان، ولم يسمعه من شيخه .. إلى غير ذلك مما هو في
سبيله ..
وبداية أقول تمهيدياً قبل شرح هذه الصورة من الإعلال:
للنقاد الحفاظ المتقدمين في هذا الميدان قصب السبق، ولا يداينهم فيه
متأخر أو معاصر، مهما أوتي من علم وفهم.
ومكانتهم وتمكنهم في هذا الباب فوق الغاية، بل فوق الخيال، ولهم وعنهم
حكايات كثيرة كأنها أساطير، أو بدت من فرط معناها كالأساطير، تبين كيف وقفوا على
علة في حديث، وكيف أن هذا العلم جرى في دمائهم واختلط بلحومهم ومخ عظامهم، ولذلك
لا يقدم قول على أقوالهم إلا بحجة صريحة يأتي بها مُحَدِّثٌ يفهم ما يقول، ويعرف عملهم
وتطبيقاتهم النقدية.
ومع ذلك أيضاً: لا نقول أنهم معصومين، بل كثرة المحفوظ عرضة للوهم،
وكثرة التحديث عرضة للخطأ، والمعصوم من عصمه الله.
هذا نقوله إجمالاً بين يدي المناقشة حتى لا يتأتى لمتعقبٍ هذيان..
ولأن الصور لهذا النوع من الإعلال كثيرة جداً، سأكتفي هنا بنقاش
مثالين متماثلتين من هذه الصور، لبيان ما فيها..
المثال الأول: عن حديث رواه الوليد
بن مسلم عن الأوزاعي عن عطاء عن ابن عباس عن النبي ﷺ " إِنَّ اللهَ عزَّ
وجَلَّ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأَ والنِّسْيَانَ ومَا اسْتُكْرِهُوا
عَلَيْهِ" .
جاء في العلل لابن أبي حاتم (4/115) قال:
وسألتُ أبي عَنْ حديثٍ رَوَاهُ محمَّد بْنُ المُصَفَّى، عَنِ
الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنِ الأوزاعيِّ، عَنْ عَطَاء، عَنِ ابْنِ عَبَّاس،
عَنِ النبيِّ ﷺ قَالَ: إِنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأَ
والنِّسْيَانَ ومَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ.
وَرَوَى ابْنُ مُصَفًّى، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عن
الأوزاعيِّ، عن عَطَاء، عَنِ ابْنِ عبَّاس، مِثلَهُ، وَعَنِ الْوَلِيدِ، عَنْ
مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، مِثلَهُ.
وَعَنِ الْوَلِيدِ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَة، عن موسى ابن وَرْدان، عَنْ
عُقْبَة بْنِ عَامِرٍ، عن النبيِّ ﷺ؛ مِثْلُ ذَلِكَ؟
قَالَ أَبِي: هَذِهِ أحاديثُ مُنكَرةٌ، كأنها موضوعة.
وَقَالَ أَبِي: لَمْ يَسْمَعِ الأوزاعيُّ هذا الحديثَ من عَطَاء؛
إنَّه سَمِعَه مِنْ رَجُلٍ لَمْ يُسَمِّه، أَتَوَهَّمُ أنه عبد الله بْنُ عَامِرٍ،
أَوْ إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ، وَلا يصحُّ هَذَا الحديثُ، وَلا يَثبُتُ
إِسْنَادُهُ. اهـ
قلت: الشاهد من هذا قول الإمام أبو حاتم: لم يسمع الأوزاعي هذا
الحديث من عطاء.
وبغض النظر عن روايات هذا الحديث وطرقه التي تجعل الواقف عليها يجزم
بثبوته، خلاف ما ظنه أب, حاتم أنها منكرة أو موضوعة!!
وهو ما فعله الحفاظ من قديم وحديث حتى عصرنا، فصححوه أو حسنوه.
لكن نقاشنا حول كلمة أبي حاتم في الانقطاع بين الأوزاعي وعطاء.
وبداية نقول: هذه الصورة تعتبر مجملة مع بيان العلة، لأنه حكم على
الحديث وبين وجه العلة فيه، لكن يلاحظ أنه لم يستدل عليها، فيرويه بإسناده عن
الأوزاعي بالواسطة التي قال أنها بينه وبين عطاء.
ولو كان هذا ثمَّ، لقضي الأمر لقول أبي حاتم في هذا الطريق.
ومع ذلك: يبقى قول أبو حاتم من القوة التي لا يستهان بها، لأنه حافظ
ناقد قل نظيره، وله من البصر بالعلل ما لم يتهيأ لكثير من أقرانه.
ولكي نخالف هذا الإمام بظاهر الإسناد الصحيح لابد لنا من بحث عن قرائن..
والقرائن التي يجب أن نبحثها أولاً هنا هي القرائن التي تثبت قوله
وتصححه، ونقول ذلك ليس لأن قوله لا قيمة له!! حاشاه..
وإنما لأن قوله في حكم المعلق، إذ إنه لم يعاصر الوليد ولا الأوزاعي،
ولم يروه بإسناد متصل صحيح إليه ليصبح قوله حجة معتبرة.
ولذلك بحثنا أولاً: عمن تابع أبا حاتم على وجود هذا الانقطاع، في هذا
الحديث خاصة، فلم نجد أحدا تابعه، وإن وُجِدَ من أعلَّهُ في الجملة.
وثانياً: بحثنا عن طريقٍ واحدٍ فيه الواسطة بين الأوزاعي وعطاء، فلم
نجده كذلك.
وثالثاً: وجدنا أن الوليد يدلس ويسوي حديث الأوزاعي، فيرفع الضعفاء من
شيوخه ويوصل حديثه إلى الثقات بدعوى أنه " يُنَبِّل الأوزاعي!! ".
ولكن هذا الثالث غير قوي هنا، لوروده من طريقين آخرين غير طريق
الوليد، بما يعني أنه لا توجد قرائن ترجح قول أبي حاتم المعلق في الانقطاع بين
الوليد والأوزاعي.
ومن جهة أهرى، وجدنا قرائن تؤكد هذا الاتصال:
منها: أن الأوزاعي ثقة حجة، ولا يعرف بتدليس، وإن أرسل أحياناً.
ومنها: أنه لقي عطاء وحدث عنه مراراً، وعنعنة مثله لا تفيد التدليس أو
الإرسال إلا بحجة ظاهرة.
ومنها: أن بشر بن بكر، وأيوب بن سويد، قد تابعا الوليد بن مسلم،
فروياه عن الأوزاعي، متصلاً عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن ابن عباس، مرفوعاً، فضعف
دور الوليد في هذا الطريق.
ومنها: أن أبا حاتم لم يرجح حقيقة من هو الراوي بينهما بل تردد في
ضعيفين ذكرهما ولم يرجح.
ومنها: أن توهيم الثقات وتخطئتهم لابد أن يكون بحجة ظاهرة.
ومعلوم أن الإسناد لا يرد إلا بالإسناد، والإسناد من الدين، ولولا
الإسناد لقال من شاء ما شاء، كما هو مجمع عليه.
ولكل تلك القرائن: قدم ظاهر الإسناد وصحح الحديث، ولم تؤثر فيه العلة التي
ذكرها أبو حاتم.
على أنها لو كانت مؤثرة في هذا الطريق، لا تؤثر في كل طرقه، وقد ذكرنا
في مقال خاص من رواه، وكم طريقٍ له، فليراجعه من شاء.
المثال الثاني:
ما نقل عن أبي زرعة أن ثابتاً بن أسلم البناني لم يسمع من أبي هريرة.
قال ابن أبي حاتم في المراسيل (ص22):
سَمِعْتُ أَبَا زُرْعَةَ يَقُولُ: ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ
مُرْسَلٌ. اهـ
وكما نلاحظ: أن هذا قول مجرد عن الدليل، ولم يبين أبي زرعة وجه الحجة
في دعواه.
ومع ذلك فقد جاءت أحاديث متصلة بين ثابت وأبي هريرة، في معاجم
الطبراني وفي زهد ابن المبارك، وفي غيرهما.
منها: ما رواه معمر عن ثابت عن أبي هريرة.
ومعمر متكلم في روايته بخصوص أهل البصرة، وثابت بصري.
ومنها: ما رواه عبد الله بن المبارك في الزهد قال: أخبرنا سليمان بن
المغيرة عن ثابت البناني عن أبي هريرة قال: البيت يتلى فيه كتاب الله كثر خيره
وحضرته الملائكة وخرجت منه الشياطين.. الحديث.
وسليمان بن المغيرة قال فيه أحمد بن حنبل: ثبت ثبت.
وقال فيه يحيى بن معين: ثقة ثقة.
وذكر ابن المديني: أنه من أثبت أصحاب ثابت.
فهو ثقة ثبت، وله خصوصية بحديث ثابت كذلك..
وأخرجه محمد بن نصر في قيام الليل كما في مختصره (ص:172) من رواية أنس
مرفوعاً.
وقال أبو حاتم كما في العلل لابنه (4/590): هذا حديثٌ مُنكَرٌ.
يريد رفعه عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم .
لكن محمد بن نصر - أو المختصر- قال عقبه: وَفِي الْبَابِ: عَنْ أبي هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَوْقُوفًا. اهـ
فكأن رواية أبي هريرة محفوظة عنه..
فكأن رواية أبي هريرة محفوظة عنه..
لكن هل يعني ذلك أنها محفوظة وحدث به ثابت عنه موقوفاً؟
ليس هناك ما يدعم ذلك بوضوح.
إلا أن رواية سليمان بن المغيرة صحيحة متصلة حسب الظاهر..
فهل نرد هذا الإسناد الصحيح، أم نرد كلام أبي زرعة؟
هنا يأتي دور البحث عن القرائن التي ترجح هذا أو ذاك..
ونظرنا أولا في المتن: «الْبَيْتُ يُتْلَى فِيهِ كِتَابُ اللَّهِ
كَثُرَ خَيْرُهُ، وَحَضَرَتْهُ الْمَلَائِكَةُ، وَخَرَجَتْ مِنْهُ الشَّيَاطِينُ،
وَإِنَّ الْبَيْتَ الَّذِي لَمْ يُتْلَ فِيهِ كِتَابُ اللَّهِ ضَاقَ بِأَهْلِهِ،
وَقَلَّ خَيْرُهُ، وَحَضَرَتْهُ الشَّيَاطِينُ، وَخَرَجَتْ مِنْهُ
الْمَلَائِكَةُ».
فوجدنا معناه صحيحاً، وما من فقرة منه إلا ولها شواهد في الجملة.
فبقي معنا البحث عن قرائن لتصحيح النسبة من الوجهة الإسنادية ..
فوجدنا أن أبا زرعة تفرد بهذا القول ولم يتابعه عليه أحد.
ولكنه كذلك لم يخالفه أحد، لا من المتقدمين ولا من المتأخرين..
ووجدنا مما يرجح قوله، أن جادة ثابت عن أبي هريرة بينهما " أبو رافع
نفيع الصائغ "..
فالجادة هي: حماد بن سلمة أو غيره: عن ثابت عن أبي رافع عن أبي هريرة..
لكننا أيضاً وجدنا المعاصرة والإدراك بين ثابت وأبي هريرة، وكلاهما
عاشا في البصرة، وكان وقتئذٍ في العشرين من عمره، فليس فيه ما يمنع سماعه منه..
لكن كلام هذا الإمام لا يهمل.. لا سيما وهو لم يخالف، وكذلك لم يتعقبه
أحد.
وللترجيح لجهة أبي زرعة على ظاهر الإسناد نحتاج إلى أمور عاضدة ليست
موجودة هنا وهي بالترتيب حسب القوة:
- أن يرويه أبي زرعة مسنداً،
مبيناً حجته في عدم سماع ثابت من أبي هريرة.
- أن يوافقه عليه غيره ممن هو
في درجته.
- أن تأتي هذه الرواية بعينها
من طريق آخر - ولو ضعيفاً - فيها الواسطة.
أما والإسناد صحيحاً، وظاهر الاتصال، ورواه الثقة الثبت عنه، ولم يعرف
عن ثابت تدليس، ولم يخالفه طريق غيره، وحصلت المعاصرة بينهما زماناً ومكاناً، وجاز
السماع، فلا يقدم إعلال أبي زرعة على ظاهر الإسناد الصحيح.
وإن جوزه البعض هنا، فبقرائن ترجح ذلك، وليس لقول أبي زرعة المجرد.
وبهاذين المثالين، يتبين لنا: أن الإعلال المجرد من الحجة، لا يرد
ظاهر الاسناد الصحيح إلا بحجة مسندة تفوقه قوة..
فالإسناد لا يُظهِر ما فيه من خطأٍ إلا إسناد مثله.
وقد اتفق الأئمة النقاد أن الحديث إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه.
وهذا طريق لم يخالفه طريق مثله أو حتى أقل منه قوة.
وقد يستعظم البعض ذلك فيتساءل: كيف نرد عدم السماع من أبي زرعة وهو من
هو؟
وجوابا عليه نقول:
رُدَّ كلام الكثير من النقاد في عدم السماع، وهذا أكثر من أن يحصر.
والترجيح الذي لا يعتبر بقول الناقد في عدم السماع، إنما غالبه يكون
معه الحجة، وهي دائماً وأبداً بالإسناد الصحيح المتصل.
فعاد الأمر برمته إلى الاحتجاج بالإسناد.
وقد وفقنا الله بإخراج مقال يبحث مسائل نفي السماع وردها بظاهر
الاسناد، فلينظره من شاء على مدونتي هنا قريبا جداً بإذن الله تعالى.
ويؤيد هذا الذي قلت أعلاه، كلام الحفاظ ممن لهم الباع الطويل في فهم
كلام الأئمة وتطبيقاتهم النقدية.
قال الحافظ ابن حجر في النكت:
" فمتى وجدنا حديثاً قد حكم إمام من الأئمة المرجوع إليهم -
بتعليله - فالأولى إتباعه في ذلك، كما نتبعه في تصحيح الحديث إذا صححه.
وهذا الشافعي مع إمامته يحيل القول على أئمة الحديث في كتبه فيقول:
"وفيه حديث لا يثبته أهل العلم بالحديث".
وهذا حيث لا يوجد مخالف منهم لذلك المعلل، وحيث يصرِّح بإثبات
العلة.
فأما إن وجد غيره صححه فينبغي حينئذ توجه النظر إلى الترجيح بين
كلاميهما.
وكذلك إذا أشار المعلل إلى العلة إشارة ولم يتبين منه ترجيح
لإحدى الروايتين، فإن ذلك يحتاج إلى الترجيح والله أعلم. اهـ
فشرط هنا شروطا لقبول واتباع قول النقاد:
الأول: حيث لم يخالفه مخالف من
هؤلاء النقاد.
الثاني: حيث يصرح بإثبات العلة.
الثالث: الترجيح إذا أشار للعلة
إشارة ولم يرجح.
ونلاحظ الفرق بين: التصريح بالعلة، والتصريح باثبات العلة.
وإثبات العلة يعني الاحتجاج لها بالإسناد أو المعاصرة للراوي ومشاهدة
حاله.
وهذا عين ما نقول به في هذا البحث.
ولم يتفرد الحافظ بذلك بل نقل عن العلائي مثله، فقال ناقلا عنه من
كتابه الجامع:
"وإنما يقوي القول بالتعليل - يعني فيما ظاهره الصحة - عند عدم
المعارض، وحيث يجزم المعلل بتقديم التعليل أو أنه الأظهر، فأما إذا اقتصر على الإشارة
إلى العلة فقط بأن القول - مثلا - في الموصول: رواه فلان مرسلاً أو نحو ذلك،
ولا يبين أي الروايتين أرجح، فهذا هو الموجود كثيراً في كلامهم، ولا يلزم منه
رجحان الإرسال على الوصل. اهـ
فأشار أولاً: إلى عدم المعارض.
وثانيا: أن يجزم بالتعليل وأنه
الأظهر.
ثالثا: أن إعلال الناقد (بالإشارة)
بلا ترجيح لا يلزم منه اتباع قوله.
ويقول الحافظ ابن حجر عن وهم ضَمْرَةَ في روايته حديث "مَنْ ملك
ذا رحم محرم، فهو حر" عقب روايته حديث الولاء وهبته، كما في الجواهر والدرر
(2/924) للشمس السخاوي:
"وأمَّا مَنْ صحَّحه، فمشى على ظاهر السَّند، ولم يلتفت إلى
علَّته، ولا يقع في ذلك إلا مَنْ لم يتبحَّر مِنَ اصطلاح أئمَّة أهل الفنِّ، فقد
تقرَّر أنهم لقُوَّة ملكَتِهم فيه كالصَّيرفي في نقدِ الدَّرهم. وهذا إنَّما
هو فيما لم يُبرهِنُوا على سبب علَّته، وأمَّا ما برهَنُوا عليه، كهذا الحديث، فلا
التفاتَ لِمَنْ خالفهم".
فطالب بالبرهان على سبب العلة، وهو ما نقول به هنا .
وقال الصنعاني في إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد (ص80):
قَالَ السَّيِّد مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم فِي التَّنْقِيح: " ظَاهر
الحَدِيث المعل السَّلامَة من الْعلَّة حَتَّى تثبت بطرِيق مَقْبُولَة ".
فنص على ثبوت العلة كي يحتج بها على ظاهر الإسناد الصحيح.
وقال في (ص79): "من شُرُوط الصَّحِيح السَّلامَة من الشذوذ
وَالْعلَّة وَلَيْسَ مدرك هذَيْن الْأَمريْنِ الْإِخْبَار بل تتبع الطّرق
والأسانيد والمتون، والشذوذ وَالْعلَّة نادران وَالْحكم للْغَالِب لَا للنادر
".
الصورة الثالثة - وهي أقواها وأعلاها في الاستدلال - أن يذكر للعلة دليلها ويسوقها بالإسناد:
مثاله: الحديث الذي مثل له الحاكم في أنواع العلل وهو حَدِيثِ مُوسَى
بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أبي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أبي هُرَيْرَةَ،
عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: « مَنْ جَلَسَ مَجْلِسًا، فَكَثُرَ فِيهِ لَغَطُهُ،
فَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، لَا إِلَهَ
إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ، غُفِرَ لَهُ مَا كَانَ فِي
مَجْلِسِهِ ذَلِكَ».
فَرُوِيَ الحاكم أَنَّ مُسْلِمًا جَاءَ إِلَى الْبُخَارِيِّ،
وَسَأَلَهُ عَنْهُ، فَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ مَلِيحٌ، إِلَّا أَنَّهُ مَعْلُولٌ!
حَدَّثَنَا بِهِ مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا وُهَيْبٌ، ثَنَا سُهَيْلٌ، عَنْ
عَوْنِ بْنِ عبد اللَّهِ، قَوْلُهُ: وَهَذَا أَوْلَى; لِأَنَّهُ لَا يُذْكَرُ
لِمُوسَى بْنِ عُقْبَةَ سَمَاعٌ مِنْ سُهَيْلٍ. اهـ
فذكر الإمام البخاري علة هذا الطريق، وروى بسنده ما يؤكدها.
وهذا من الوضوح بمكان لا يخفى، ومثل هذه الصورة من الإعلال تقبل إذا
صحت في نفسها ولا ترد أبداً إلا إذا قاومتها طرقاً أقوى..
ومثاله أيضا: ما جاء في الحديث الثاني من علل الدارقطني:
حيث بين - رحمه الله- علته واستصوب رواية الدراوردي وساق سنده إليه
فقال:
وحدثنا أبو مُحَمَّدِ بْنُ صَاعِدٍ، حَدَّثَنَا عبد الرَّحْمَنِ بْنُ أبي
الْبَخْتَرِيِّ الطَّائِيُّ، وَحَدَّثَنَا أبو الْعَبَّاسِ الْمَارَسْتَانِيُّ عبد
اللَّهِ بْنُ أحمد بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قال: حدثنا مُوسَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
حَيَّانَ الْبَصْرِيُّ بِبَغْدَادَ، قال: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، قال:
حدثنا الدَّرَاوَرْدِيُّ بِذَلِكَ.
وَحَدَّثَنَا صَوَابَهُ أبو مُحَمَّدِ بْنُ صاعد، قال: حدثنا عبد الله
بن عمران العابدي، قال: حدثنا الدراوردي.
وقال في الحديث الرابع (1/166): حَدَّثَ بِهِ سُلَيْمُ بْنُ حَيَّانَ،
عَنْ قتادة كذلك.
وَاخْتُلِفَ عَنْ سُلَيْمٍ، فَقِيلَ عَنْهُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ
حُمَيْدٍ الْحِمْيَرِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ، عَنْ أبي بَكْرٍ.
حَدَّثَنَا بِذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ مَخْلَدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا
حَاتِمُ بْنُ اللَّيْثِ، حدثنا بحر بن سويد الحنفي، حدثنا الأصمعي، حدثنا سُلَيْمُ
بْنُ حَيَّانَ.
وَرَوَاهُ أبو التَّيَّاحِ فَخَالَفَ قَتَادَةَ، فَرَوَاهُ عَنْ
حُمَيْدِ بْنِ عبد الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيِّ، عَنْ أبي بَكْرٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ
عُمَرَ وَلَا ابْنَ عَبَّاسٍ.
وَقَوْلُ سُلَيْمِ بْنِ حَيَّانَ فِيهِ أَصَحُّ لِأَنَّهُ ثِقَةٌ،
وَزَادَ فِيهِ عُمَرُ، وزيادته مقبولة.
وفي الحديث السابع لما ذكر مخالفة داهر بن نوح فقال: وَلَمْ يُتَابِعْ
دَاهِرٌ عَلَى هَذَا الْإِسْنَادِ.
ثم ساق سنده إليه فقال: حَدَّثَنَاهُ الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ
المحاملي، حدثنا محمد بن يحيى الأزدي نبيل، حدثنا دَاهِرٌ بِهَذَا.
ثم ذكر طريق عبد الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَبَلَةَ، فساق سنده
إليه فقال: حَدَّثَنَا بِهِ عَلِيُّ بْنُ عبد اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الدِّيبَاجِيُّ
بالبصرة، حدثنا سيار بن الحسن التستري ثقة، حدثنا عبد الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرِو
بْنِ جَبَلَةَ بِذَلِكَ.
هذه هي الصور الثلاثة لتعليل الأئمة المتقدمين - رحمهم الله -..
فمن سَوَّى بين الصورة الأولى والثانية، أو بين الثانية والثالثة،
فضلا عن الأولى والثالثة، فما أصاب كبد الحقيقة.
وهذا فهمي فإن كان خلاف الصواب فنسأل الله العفو والتجاوز.
ومعلوم أن كتب العلل غالبها سؤالات، وهي شبيه بالتحديث في المذاكرة،
بخلاف الكتب المسندة، التي يحتج مؤلفوها برواياتها في الشريعة..
كما أن أغلب الإعلال يكون على طرقٍ بعينها، يُسال عنها الناقد فيجيب
من ذاكرته حسب النشاط.
بالإضافة إلى وجود كثير من العلل يقول فيها النقاد: يشبه حديث فلان،
أو: لا أدري ما وجهه، وأحيانا لا يرجح..
وكم وقعت اختلافات بين تعليل أبي حاتم وأبي زرعة من جهة، وتعليل
الدارقطني من جهة أخرى، أذكر هنا مثالاً واحداً يدل على غيره لمن تتبعه:
قال ابن أبي حاتم في العلل [3/48 -رقم682]:
وسألت أبي وأبا زرعة، عن حديث رواه روح بن عبادة، عن سعيد، عن مطر، عن
بكر بن عبد الله، عن أبي رافع، عن أبي موسى، عن النبي ﷺ: «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ»؟
فقال أبي: رواه هشام بن عمار، عن شعيب بن إسحاق، ورواه عبد الوهاب
الخفاف، عن سعيد، عن أبي مالك، عن ابن بريدة، عن أبي موسى، عن النبي ﷺ. اهـ
هنا جزم أبو حاتم أن رواية عبد الوهاب مرفوعة!!
وفي علل الدارقطني [3/400] سئل عن حديث أبي رافع، عن أبي موسى، عن
النبي ﷺ.
فقال: يرويه سعيد بن أبي عروبة، واختلف عنه:
فرواه روح بن عبادة، عن سعيد، عن مطر، عن بكر، عن أبي رافع، عن أبي موسى،
أنه كان يحتجم ليلا، وقال: سمعت النبي ﷺ يقول: «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ
وَالْمَحْجُومُ».
وخالفه عبد الوهاب بن عطاء الخفاف، وأبو بحر البكراوي، وابن أبي عدي،
فرووه عن سعيد، عن مطر موقوفاً، ولم يذكروا «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ»،
وذكروا فعل أبي موسى حسب. اهـ
فالدارقطني هنا يقول أن رواية عبد الوهاب الخفاف موقوفة.
وهذا اختلاف فيه جزم من الإمامين: أحدهما بوقفه، والثاني برفعه..
ومن تتبع أوهام الدارقطني في الإلزامات والتتبع وكذا استدرك بعضها
عليه من أبي مسعود الدمشقي وبعضها من الشيخ مقبل الوادعي، مع سعة حفظ هذا الإمام،
علم أن الوهم والخطأ والنسيان، طباع جبل عليها البشر مهما أوتوا من علم وحفظ.
ولعل مثل هذه الصور تظهر وتؤكد أن الإعلال كله اجتهاد – خلا الصورة
الثالثة – وقد يقبل أو يخالف فيه الناقد حسب قوة الإسناد وقرائن الترجيح.
ولا فرق في أن يخالفه ناقد في عصره، أو أن يخالفه حافظ متأخر، إذ إن
العبرة بالدليل والحجة لا غير.
نعم: هم لا شك دائما أقرب إلى الصواب لما حباهم الله من فضل وعلم وحفظ
وفهم، لكن أن يستدرك عليهم مستدرك، فهذه طبيعة البشر.
قال الإمام الألباني كما في تفريغ سلسلة الهدى والنور (5/491):
"إذا صحح أو ضعف أحد الأئمة المتقدمين حديثاً كأن يقول (حديث
منكر) دون أن يقول سند أو كذا، فرأي الباحث في هذا الزمان للحديث هذا أو أن ظاهره
الصحة وليس ما يظهر له فيه علة أو له متابعات فهل يقف على كلام المتقدم أو يحكم هو
بما ظهر له من الطرق الأخرى أو بظاهر السند؟ فالأمر في التصحيح وفى التضعيف..
لا شك أن الأمر الثاني هو الواجب على طالب العلم القوى ولا يقف هو على
قول هذا الحافظ المتقدم عن حديث منكر اللهم إلا في حالة واحدة وهى أن يذكر
السند ويذكر العلة أما مجرد أن ينكر ذلك المتن أو ذلك الحديث ثم يبدو لبعض
المتأخرين المتتبعين لسند الحديث فيجده صحيحاً أو على الأقل حسناً وبخاصة إذا ما
وجد له شواهد ومتابعات، حينئذ لابد أن يتمسك برأيه واجتهاده وبالشرط الذي ذكرته
أنفا وهو أن يكون طالب علم قوي ". اهـ
وأشار إلى معنى ذلك الشيخ المحدث عبد الله بن يوسف الجديع في «تحرير
علوم الحديث» (2/644) فقال:
"... وقع في تعليلهم ردُّ الحديث بغير سبب مفسَّر، وهو قليل، لكن
هذا ليس طريقاً ينبغي التعويلُ عليه، ولا يجوزُ القولُ بردّ رواية الثقة إلا بحجةٍ
قائمةٍ؛ لِما يقتضيه ردُّ روايته من الحكم بخطئه، والأصل منعُ ذلك في أخبار العدول
دون برهان لك.
بل ينبغي أن تجعل من تعليل الناقد لحديثٍ معيَّن بغير حُجّة مفسَّرة،
شُبهةً توجِب البحثَ عن العلة، فإن استنفدتَ المُمكنَ من وسائل استكشاف العِلّة،
وثبتَتْ براءةُ الحديثِ منها، وجبَ التَّسليمُ بثبوتِ ذلك الحديث". اهـ
والسؤال: لماذا قلنا في هذه الصور: الأولى أن يذكر الإسناد؟
الجواب: لأن الإسناد من الدين، والحديث بدون الإسناد خل وبقل، كما قال
شعبة أمير المحدثين، وهذا موضع اتفاق بين الأئمة المتقدمين والمتأخرين..
قال ابن أبي حاتم في المراسيل: " سَمِعْتُ أَبِي وَأَبَا
زُرْعَةَ يَقُولَانِ: لَا يُحْتَجُّ بِالْمَرَاسِيلِ، وَلَا تَقُومُ الْحُجَّةُ إِلَّا بِالْأَسَانِيدِ الْصِّحَاحِ
الْمُتَّصِلَةِ. وَكَذَا أَقُولُ أَنَا ".
ويبقى معنا تحقيقات لمسائل مهمة:
الأولى: حكم معلقات النقاد:
الخبر المعضل والمعلق، هو الذي يسقط من إسناده أكثر من واحد، وهذا لا
يستشهد به فضلاً عن أن يعد حجة، بخلاف الانقطاع الاصطلاحي الذي يدخل في الاستشهاد
ويكتب للاعتضاد.
ونمثل هنا ببعض صور التعليق عند الأئمة النقاد.
ففي الحديث الخامس من علل الدارقطني (1/167):
وَسُئِلَ عَنْ حَدِيثِ عُمَرَ، عَنْ أبي بَكْرٍ؛ أَنَّهُ قَبَّلَ
الْحَجَرَ، وَقَالَ: لَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يُقَبِّلُكَ مَا
قَبَّلْتُكَ.
فَقَالَ: يَرْوِيهِ سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ شَرِيكِ بْنِ أبي نَمِرٍ،
وَاخْتُلِفَ عَنْهُ؛ فَرَوَاهُ أبو بَكْرٍ الْأَعْشَى وَهُوَ عبد الْحَمِيدِ بْنُ أبي
أُوَيْسٍ أَخُو إِسْمَاعِيلَ بْنِ أبي أُوَيْسٍ الْأَكْبَرُ، عَنْ سُلَيْمَانَ
بْنِ بِلَالٍ، عَنْ شَرِيكِ بْنِ أبي نَمِرٍ، عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ
عُمَرَ، عَنْ أبي بَكْرٍ.
وَخَالَفَهُ خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، وَعبد اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ،
فَرَوَيَاهُ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ شَرِيكِ بْنِ أبي نَمِرٍ، عَنْ
عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ رَجُلٍ حَدَّثَهُ لَمْ يُسَمِّيَا عُمَرَ، وَلَا
غَيْرَهُ عَنْ أبي بَكْرٍ، وَقَوْلُهُمَا أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ.
وَتَابَعَهُمَا عبد الْمَلِكِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بن
بلال. اهـ
ففي هذه الصورة، ذكر لنا الإمام الدارقطني الاختلاف في هذه الرواية،
ومن ثم رجح الصواب فيها، لكنه رواها تعليقاً !!
ولو كان قد ذكر لنا في أي كتاب وجدت هذه الأسانيد عند أئمة الحديث،
كما يقول كثيراً في علله: رواه البخاري أو مسلم أو غيرهما، فيحيل على موجود.
ومعلوم أن بين الدارقطني وبين من ذكرهم - ممن أخطآ في هذا
الحديث، أو ممن خالفاهما، أو ممن تابعا الأخيرين - رواة وشيوخ أقله
ثلاثة وأكثره خمسة.
فلو كان قد ذكر لنا روايته المتصلة إليهم لكان تعليله ونقده أقوى.
إلا إذا كانت هذه الطرق التي ذكرها موجودة في الكتب المصنفة، فعندئذ
يستصوب نقده وتعليله لوجودها في الكتب بأسانيدها متصلة للرواة الذين ذكرهم.
ويقال أيضا: طالما أنه لم يحصر الطرق فالباب لا يزال مفتوحاً، فإذا
وجد من بعده طريقٍ صحيحٍ أو أكثرَ، فمن الممكن أن يرجح الباحث موافقةً له أو
مخالفةً حسب معطيات الترجيح.
ومن الأمثلة في علله أيضاً:
وَسُئِلَ عَنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ،
عَنِ النَّبِيِّ ﷺ؛ أنه سئل: أينام أهل الجنة؟ فقال: لا، النوم أخو الموت، والجنة
لا موت فيها.
فقال: يرويه الثوري، وَاخْتُلِفَ عَنْهُ؛ فَرَوَاهُ عبد اللَّهِ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ الثوري، عن ابن المنكدر، عن جابر. وكذلك قيل عن
الأشجعي.
ورواه يحيى القطان، وابن مهدي، وأبو مهدي، وأبو شهاب الحناط، وأبو عَامِرٍ
الْعَقَدِيُّ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ مُرْسَلًا، وَهُوَ
الصَّوَابُ. اهـ
فذكر خمسة يروونه مرسلاً، لكنه لم يذكر مكان رواياتهم، أو يروي عنهم
بالإسناد، كما يفعله أحيانا كثيرة، كما في الصورة الثالثة من صور الإعلال.
والسؤال:
ما هو إسناد الإمام الدارقطني إلى من ذكرهم يروونه عن الثوري مرسلاً؟
وهل يعتبر – حسب تعليل الدارقطني – رواية عبد الرحمن بن مهدي صحيحة
ثابتة عن الثوري مرسلاً؟
لم يجب أحد على هذا جوابا علمياً، بل قالوا كلاماً مجملاً، يفيد أنهم
عرفوا وعلموا وأحاطوا ويجب أن يسلم لهم!!
بل قالوا: الكلام في التعليل لا يطلب له الدليل!! كالكتب المؤلفة في
الحديث!!
وتناسوا أن الإسناد من الدين..
ولولا الاسناد لقال من شاء ما شاء.. مهما كانت درجته ومنزلته.
فهل كنا سنقبل من البخاري لو قال في باب من الأبواب جاء فيه عن أبي هريرة
وفلان كذا وكذا دون أن يسوق الاسناد؟
وهل قبل العلماء ما قال فيه الترمذي: وفي الباب عن فلان وفلان وفلان،
وعدوه تصحيحا منه لتلك الروايات؟
وهل قبل الناس بلاغات مالك ومرسلاته؟
فعلى ذلك مراسيل التابعين أولى بالقبول..
فلماذا نقبل مثل هذا لهؤلاء الأئمة ولا نقبله لمثل الدارقطني، الذي
علل وانتقد عند الشيخين وغيرهما عشرات الأحاديث؟
مع أنه قد جاء بعد الدارقطني من ينتقد عليه – كنقد الحافظ أبي مسعود
بن محمد بن عبيد الدمشقي [ت401هـ] - ولم يتجاسر أحد من المحدثين أن يقول أن ما
فعله كان خطأ !!
وهل ما جعل الدارقطني وغيره من الحفاظ إلا بالإسناد؟ فكيف يستثنى؟
وبأي مسوغ فرقتم بين كتب العلل وكتب الحديث المسندة مع أن موضوعهما
واحداً؟
فما قاله الإمام الدارقطني في علله على هذا الحديث: "رواه فلان
وفلان وفلان وفلان وفلان عن الثوري مرسلاً:
أنا لم أقل لكم كلامه باطلاً.. ولا أرده ولا أعبأ به.. كلا وحاشا..
إنما قلت أن هذا في حكم المعلق، ويفتقر إلى الإسناد لقبوله..
فللعمل به على أرض الواقع:
ممكن أن نقول مثلاً: رواه ابن المبارك في الزهد بسند فيه ضعف، أو ممكن
يكون حسناً لأنه جاء من رواية نعيم بن حماد في الزهد لابن المبارك؟
وممكن أن نقول أيضاً: رواه جرير بن عبد الحميد ووكيع بن الجراح كلاهما
عن الثوري مرسلاً، كما جاء في زوائد الزهد لعبد الله بن أحمد.
وممكن أن نقول: رواه قطبة بن العلاء وعبيد الله بن موسى بسند صحيح عند
العقيلي كما في الضعفاء.
وذلك: لأننا وجدنا هذه الروايات مسندة..
لكن: ماذا سنقول عن الطرق التي ذكرها الدارقطني: "رواه يحيى
القطان، وابن مهدي، وأبو مهدي، وأبو شهاب الحناط، وأبو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ، عَنِ
الثَّوْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ مُرْسَلًا"؟
هل نستطيع أن نقول: جاء بإسناد صحيح إلى ابن مهدي والقطان عن الثوري ؟
لاشك أن من عنده شيء من العلم سيقول: رواه الدارقطني في العلل عن ابن
مهدي والقطان معلقاً، والخبر المعلق ضعيف باتفاق أهل العلم.
وقد ذكر الدكتور ماهر الفحل بعضاً من معلقات الدارقطني في جامع العلل
(4/38 و 5/120) وكذا معلقات غيره، وحكم بردها، ولم يعدها طرقاً متصلة يشتغل بها
عند الترجيح، مع أنه من القائلين بالتفريق المنهجي!! بين المتقدمين والمتأخرين.
وهذا هو الحق، لأننا في موقف التعداد والترجيح لمن يرويه عن الثوري
على الوجهين..
فإذا ساوينا الطريق المسند بالطريق المعلق من جهة الثبوت وسلمنا به،
كان عملنا على غير الصواب بيقين.
أضف إلى ذلك:
أننا لو فرضنا أن الدارقطني رواه عن هؤلاء الأئمة بإسناده ولم يعلقه..
فشيوخ الدارقطني ليسوا كلهم ثقات، وقد حصرت فيهم قرابة الخمسين شيخاً
من الضعفاء، وفيهم قرابة العشرة من المتهمين بالكذب والمتروكين..
فكيف وهو لم يسق الإسناد أصلاً؟
فهل من العلم أن نضعف إسناده إذا ساقه لوجود من يضعف فيه، ونصححه إذا
علقه ولم يسق إسناده؟ في أي علم هذا؟
الثانية: متى يرجح قول الناقد على ظاهر
الإسناد؟
إذا قال الناقد عن إسناد حديث أو طريق منه أنه منقطع أو مرسل أو موقوف
أو لم يسمعه فلان من فلان، ولم يخالفه مخالف من النقاد، هل يقلد في ذلك أم لا؟
نقول: الأصل تقليد الناقد فيما قال، كما نقلده في الحكم على الرجال،
إذا لم يخالف من مثله، ولم تأتِ طرقاً أخرى صحيحة بخلاف قوله.
وهل يقدم قوله على ظاهر الإسناد الصحيح المتصل والذي بلغ رواته من
الثقة والاتقان والشهرة ما بلغوا؟
هنا يأتي النظر إلى أمور:
(1) درجة الناقد مقارنة بالفحول.
(2) حجة الناقد وقوتها.
(3) صورة العلة.
فأما درجة الناقد: ففي الزمان والعلم والقدر، فقد يعل القطان حديثاً
ويرى أحمد والبخاري وغيرهما صحته بعد اطلاعهما على كلام القطان.
وعليه فلا يقبل نقد الصحيحين إلا من إمام فحلٍ، مستصحباً الحجة واضحة.
وأما حجة الناقد فمبنية على صورة العلة:
فإن كانت من الأولى التي هي (إشارة) كأن يحكم حكماً مجملاً على الحديث
أو الطريق فيقول: [ منكر - باطل – صوابه مرسل.. الخ]
ولم يتابعه عليه غيره من النقاد، ولم يقلده غيره فيه، فسلامة هذا
الإسناد مقدمة إذا كان المتن ليس فيه ما ينكر، ويشهد لمعناه غيره من الأحاديث.
وإذا كان من الصورة الثانية: وهي التي يصرح فيها بالعلة كأن يقول:
باطل لم يروه فلان وهو محفوظ عن فلان.. أو يقول خالفه فلان وفلان وعلق عنهم، فهذه
صورة أقوى من الأولى بلا شك، وقد ترقى للقبول إذا وجد ما قاله صحيحاً، ووافقه عليه
غيره من النقاد، والمخالف هنا إن خالف بقرائن فبحسب قوتها في نفسها، كأن نجد طرقاً
أخرى صحيحة متصلة، تقوي ما ذهب إليه، فعمله لا إشكال فيه، وإن لم نجد فتقليد
الناقد يتأرجح مع ظاهر الإسناد قبولاً ورداً.
وإذا كان من الصورة الثالثة وهي سوق الإسناد ليدلل على العلة، كما
يفعل الدارقطني أحيانا في العلل ومسلم كثيراً في التمييز، وغيرهما، فلا شك في عدها
علة صحيحة ثابتة إذا كان ما يسوقه من أسانيد صحيحة إلى المتابع أو المخالف للرواية
موضوع الإعلال.
وحينئذ فمخالفة الناقد لا تكون بمجرد القرائن، بل بأسانيد تفوق في
القوة والكثرة ما ذكره الناقد، وهذا نادراً ما يوجد، بل الحق فيها غالباً مع
الناقد سواء وافقه غيره أم لا، لأن سياقه للإسناد يغني عن موافقة غيره له.
وهذا حيث علل طريقا لرواية، فيعل الطريق نفسه، ولا يجري ذلك على كل
طرق الحديث.
والملاحظ في هذه الصور الثلاثة أن الحجة هي القرينة الصارفة للإعلال
أو المثبتة له.
فالعمل في باب الإعلال كله هو الحجة، وهي الحاكم على تصويب الناقد أو
ترجيح قول من يخالفه.
الثالثة: متى يجب تقليد النقاد؟
لما كانت الأدلة الشرعية عائدة للأصلين - الكتاب والسنة - كان
الاشتراك في فهمهما والعمل بهما مهمة العلماء في الجملة.
والعلماء في هذا الباب هم المحدثون والفقهاء.. وباقي العلوم لهما خدم
وأعوان..
فالمحدثين يعملون في علم الخبر ونقله..
والفقهاء يعملون في علم الاستنباط من الخبر وفهمه للعمل به..
ولا شك أن المحدث له الحق كذلك في الاشتغال بفهم الخبر والاستنباط
منه.
كما أن الفقيه له الحق كذلك في أن يشتغل بعلوم نقل الخبر والمشاركة في
نقله.
والفقيه الذي نقصده، هو الفقيه الذي يبني علم الاستنباط الفقهي على
أصول الكتاب والسنة، وفهم السلف الصالح، ولا نقصد به الفقيه الأصولي الذي يدخل
المنطق الكلامي في الأدلة، فهذا خارج المعادلة.
وإذا قارنا بين الإمامين: أحمد والشافعي، من جهة الاختصاص..
نجد أن أحمد محدث متخصص في علم نقل الخبر، وفقيه مشارك في فهمه
ومتعلقاته العلمية والعملية.
كما نجد أن الشافعي كذلك فقيه متخصص ومحدث، ومشاركاته واجتهاداته في
علم الخبر لا تنكر..
وبهذا التقرير المجمل والواضح، نستطيع أن نقول:
هناك اختلاف في قبول الخبر بين مدرستي الحديث والفقه..
فالمحدثون لا يصححون الخبر - المتصل بالرواة العدول الثقات - إلا إذا
انتفت عنه العلة والشذوذ.
بينما الفقهاء لا يعتبرون الشذوذ سبباً يرد به الحديث، إذ الشاذ عندهم
لو جاء من رواية ثقة، فكأن ما شذ به حديث قائم بذاته.
وكذلك لم يقبلوا العلل الخفية التي يعل بها المحدثين الأحاديث، بينما
قبلوا العلل الظاهرة كالانقطاع، وضعف الرواة، وكل ما يؤثر في ثبوته بأمر ظاهر.
وأيا كانت وجهات النظر،، فهذا الخلاف بين العلماء المنوط بهم تبليغ
الشريعة، يجعل من الصعب الحكم لأحدهما بأن مذهبه واجب الإتباع وخلافه غير واجب.
لأن هذا الإيجاب إن كان بمعنى الاستحباب والأولوية فلا إشكال، فلكل
وجهة هو موليها.
وإن كان هذا الإيجاب الذي هو من باب الفرضية التي تركها إثم وذنب، فلا
يثبت إلا بدليل شرعي من كتاب أو سنة أو إجماع.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (20/210):
"قَدْ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ أَنَّ
اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَرَضَ عَلَى الْخَلْقِ طَاعَتَهُ وَطَاعَةَ
رَسُولِهِ ﷺ وَلَمْ يُوجِبْ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ طَاعَةَ أَحَدٍ بِعَيْنِهِ
فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ إلَّا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ... وَاتَّفَقُوا
كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مَعْصُومًا فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُ بِهِ
وَيَنْهَى عَنْهُ إلَّا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَلِهَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ
الْأَئِمَّةِ: كُلُّ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ
إلَّا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ". اهـ
وقال أيضا كما في «مجموع الفتاوى» (35/121):
"أَمَّا وُجُوبُ اتِّبَاعِ الْقَائِلِ فِي كُلِّ مَا يَقُولُهُ
مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا يَقُولُ فَلَيْسَ
بِصَحِيحِ؛ بَلْ هَذِهِ الْمَرْتَبَةُ هِيَ مَرْتَبَةُ الرَّسُولِ، الَّتِي لَا
تَصْلُحُ إلَّا لَهُ".
وهذا الكلام صحيح في الجملة، إلا أنه هناك حالة يقدم فيها القول بوجوب
اتباع النقاد فيما يذكرونه من العلل، وهي:
اتفاق أهل العلم بالحديث – بما يشبه الإجماع - من طبقة الحفاظ النقاد،
على ضعف راوٍ أو ثقته أو اتهامه، وكذا اتفاقهم على علة ظاهرة، فهنا لا يجوز خلافهم
لأن اتفاقهم حجة ملزمة، والقول بالوجوب هنا متعين.
أما العلة الخفية فالقول فيها بالوجوب، يعني أن الفقهاء الذين خالفوهم
فيها قد يأثمون بمخالفتهم، ولم يقل هذا أحد فيما أعلم.
وأما انفراد إمام من النقاد باطلاعه على علة خفية تبين خطأ الرواية،
ثم صرح واستدل عليها، ولم يوجد له مخالف، وكذلك لا يوجد ما يعارضها من طرق أخرى،
فالوجوب هنا محتمل جداً، وإن خالفه الفقهاء.
وسئل أبو زرعة: ما الحجة في تعليلكم الحديث؟
فقال: الحجة أن تسألني عن حديث له علة فأذكر علته، ثم تقصد ابن وارة
فتسأله عنه فيذكر علته، ثم تقصد أبا حاتم فيعلله، ثم تميز كلامنا على ذلك الحديث،
فإن وجدت بيننا خلافا، فاعلم أن كلا منا تكلم على مراده، وإن وجدت الكلمة متفقة
فاعلم حقيقة هذا العلم، ففعل الرجل ذلك فاتفقت كلمتهم، فقال: أشهد أن هذا العلم
إلهام. اهـ
ويستفاد من هذا الخبر أمور:
- أن هذا العلم مرجعه إلى
الفهم والمعرفة والحفظ وكثرة المذاكرة لا غير.
- أن اختلاف النقاد ما هو إلا
اجتهاد يقبل منه ما وافق الحجة، ويرد منه ما خالفها.
- وفيه أن اتفاقهم حجة ملزمة
لمن بعدهم، لأنهم أهل الاختصاص، وما قالوه إلا عن علم وفهم.
وبهذا التفصيل يتبين عظم موقع الأئمة وتنزيلهم منازلهم، فلا ترد أقوال
النقاد إلا بحجة وعلم، إذ الأصل أن عملهم النقدي يغلب عليه الصواب، لتمرسهم فيه
وقضاء أعمارهم في تحصيله وحفظه وفهمه.
وكذلك لا ترد اجتهادات الحفاظ المتأخرين - لا سيما المحققين منهم،
المشهود لهم بالحفظ والفهم - إذا ردوا قول المتقدم أو خالفوه بحجة بينوها واستدلوا
عليها بما لا يدفع.
رحم الله الأئمة جميعاً، متقدمهم ومتأخرهم.
آخره،، والله أعلى وأعلم.
وكتبه: أبو عمر، عادل سليمان القطاوي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق